الجمعة، 9 يوليو 2021

"لا" لإكستازي وأخواتها

 في الرابع والعشرين من أكتوبر من عام 1995م، وقعت حادثة -عدت- سابقة في حينها، حين توفيت فتاة استرالية تدعى "آنا وود" وهي في سن الخامسة عشر بعد تعاطي قرص الهلوسة الإكستازي "المخدر" في حفلة راقصة، وكان سبب وفاتها بحسب تقرير الطب الشرعي "اعتلال الدماغ بعد تسمم حاد بالماء نتيجة تعاطي قرص الإكستازي!"

بدأت تفاصيل الواقعة قبل الوفاة بثلاثة أيام حين استأذنت "آنا" والديها للذهاب لمنزل إحدى صديقاتها لتقضي ليلتها هناك، إلا أنها قررت مسبقاً مع مجموعة من أصدقائها في المدرسة حضور حفلة رقص صاخبة في ملهى ليلي في تلكَ الليلة، وأثناء الحفلة تعاطوا أقراص الإكستازي، لتجعلهم أكثر قدرة على الاستمتاع بالرقص وسماع الموسيقى؛ غير أن تجربة مثل هذه الأقراص لها آثار خطيرة، عانت منها "آنا" أكثر من البقية نذكر منها في سياق القصة "شعورها بجفاف شديد في الفم متزامناً مع عدم قدرتها على بلع الأطعمة، وحدوث انقباضات لا إرادية متتالية في الفكين"، فقامت بشرب كميات كبيرة جداً من السوائل في وقت قصير، وهذا الاستهلاك المفرط للسوائل أدى إلى تخفيف لزوجة الدم وانخفاض مستوى الصوديوم، والذي سبب امتصاص الماء إلى داخل الخلايا وخاصة الدماغ فتورمت جراء ذلك، ملحقة تلفًا لا يمكن إصلاحه، وصاحب ذلك تعطل استجابة الجسم الطبيعية لإفراز الماء الزائد عن طريق التبول، وهذا ما يعرف "بمتلازمة فرط إفراز الهرمون المضاد لإدرار البول".

وعند الساعة الخامسة فجراً ، بدأت "آنا" تشعر بتوعك، وشوهدت وهي تندفع إلى الحمام عدة مرات لتتقيأ، ما اضطر أصدقاؤها إلى أخذها لمنزل أحدهم دون طلب الإسعاف، لتزداد سوءاً وتفقد وعيها، ليُجبروا عند الساعة العاشرة صباحًا إلى إبلاغ والديها بحالتها، ويتم نقلها إلى المستشفى، واستمرت في حالة الغيبوبة حتى وافتها المنية؛ وبعد فترة الحداد، نظم والدا "آنا" حملة لمكافحة المخدرات كان عنوانها (قل لا للمخدرات)، وجعلا صورتها شارة ترويجية للحملة، كما تم تغطية قصتها وما وراءها من واقع تعاطي الأطفال والمراهقين للمخدرات في استراليا على نطاق واسع في وسائل الإعلام، ليكتب بعدها "برونوين دوناغي" كتاباً عن "آنا" كان الأكثر مبيعًا.

في حين أن الحوادث السابقة ذات الصلة بالإكستازي كانت تحظى بتغطية محدودة ويُبلغ عنها في سياق الجنح، إلا أن هيئة "آنا" كانت مختلفة عن الصورة النمطية للمدمن المتشرِد، فتعاطف معها المجتمع لتكون بذلك الطفــــلة التي "ارتبــــط بها الجميع"، وليتــم استخدام الحــــــــــادثة كتـحذير لمنـــع الحوادث المشابهة، ولاتباع نهج أكثر تشددًا في التعامل مع المخدرات في وسائل الإعلام ومن قبل المعنيين. إنّ التغطية الإعلامية لوفاة "آنا" وحملة والديها أدتا إلى زيادة الوعي حول تعاطي الأطفال واليافعين للمخدرات في استراليا، بيد أنّ الإجراءات التي اتخذتها الحكومة في حينها لم تكن كافية "بحسب رأي المراقبين"، كونها تبنت مبدأ "الحد من الضرر"، والذي يقول بشكل ما "خذ المخدر بأمان" والحقيقة تنص بأنه "لا توجد طريقة آمنة"؛ والمؤكد فقط (أننا لا تعرف ماذا سيحدث لنا عندما نتعاطى).

من المؤسف غياب مبادرات مبتكرة ومستمرة، فالمتتبع لمقولة "فقط قل لا" يرى جذورها تمتد لعام 1982م، وذلك عندما سألت تلميذة السيدة نانسي زوجة الرئيس الأميركي ريغان عما ينبغي عليها فعله إذا عُرضت عليها المخدرات، فأجابتها :"فقط قولي لا"، لتصبح شعار حملتها للتوعية بمخاطر المخدرات التي أطلقتها قبل ذلك بعامين؛ والأكثر أسفاً الجدال البيزنطي حول إضافة كلمة (لا) في حملات المكافحة، إذ أشار المنتقدون -لشعار "فقط قل لا"- إلى مخاوف جمة من تفاقم المشكلة بدلاً من حلها كونها تمنع الشباب من تلقي معلومات دقيقة حول التعامل مع المخدرات!، ويذهبون بزعمهم إلى حد مساهمتها في وصم المدمنين بالسوء.

وختاماً ماذا لدينا من أداة لفظية صريحة بديلة عن كلمة لا؟، لماذا نختبىء خلف إصبعنا الصغرى، ونردد مخاوفهم من إلحاق" لا" بالحملات التوعوية لمكافحة المخدرات!، أليس من الأجدى تطويع الكلمة لصالحنا واعتماد أساليب إضافية تقوي استخدامها، وترفع الوعي بمخاطرها، فلم يعد الطفل بمنأى عن خطر تلقي المعلومات المغلوطة عن آثارها، ولا من ضغط الأقران السلبي لتجربتها، فكيف سترفع ثقته بنفسه وتختبر رفضه لكل ما يسلخه عن قيمه، وتمكنه من إدارة مواقف الخطورة المحتملة في حياته ما لم يكن أول ما يتعلمه قول "لا"، المنافية للتردد والمقيمة لما بعدها من مهارات تحفظ له نفسه ودينه وماله؛ إنّ الأمل الذي يتراءى لنا مع انعدام أساليب واقعية لتنشئة الأبناء في ظل التحديات القائمة ومواجهة خطر المخدرات أشبه باليراع الذي يُضيءُ ذنَبُه في ليلة ظلماء فلا ينير طريقاً ولا يبدد ظلاماً.

الاثنين، 28 يونيو 2021

فرصة ثانية

(إدجار آلان بو)، شاعِرٌ وقصصي أمريكي بائس، ولد في بوسطن عام 1809 م، لأبوين يعملان في التمثيل، وبعد اختفاء أبيه ووفاة أمه وهو فيالثالثة من عمره، كفله قريب له يدعى جون ألان، الذي أثار دهشته امتلاك إدجار موهبة شعريَّة فذَّة - قراءة وكتابةوهو في الخامسةِ منعُمْرهِ، على الرغم من السواد الذي لف وعيه، ولاحظ أحد أساتذته ذلك التفوّق فهتف ذات مرة قائلاً:- "هذا الولد خُلق شاعراً"، وفي سن الثالثة عشرة كان غزير الإنتاج، غير أن موهبته كانت على المحك لمحاولة إثباطها من قِبَل جون آلان، الذي فضَّل أن يتبعه في التجارة عوضاً عن صنعة الأدب، فاستجاب لضغوطه بيد أنه أثناء عمله كان يكتب قصائد على ظهر بعض الأوراق التجارية؛ وعندما التحق إدجار بجامعة فيرجينيا عام 1826م تفوق في سنته الأولى، ومع ذلك لم يحصل على أموال كافية من جون لتغطية تكاليف دراسته، فمارس القمار لتغطية تلك التكاليف، ليغرق في الديون والخمور بسببها، وفي سن السابعة والعشرين تزوج بنت عمه التي أصيبت بالسل ولم يستطع تدبر نفقاتعلاجها لتموت بعد خمسة أعوام من زواجهما، ولتنتهي بوفاتها فترة السعادة الوحيدة التي عاشها، ويختار بعدها العزلة والإفراط في الشراب ويبدأ في تعاطي الافيون، وبذلك وصفه أحد المؤرخين بقوله "كان يجلس في غرفة معتمة مع غراب على بابه، وزجاجة على طاولته، وأنبوبمليء بالأفيون"؛ وبتلك الكيفية كتب قصيدته ذائعة الصيت "الغرابنتاج خليط موهبته الأدبية وآثار تعاطي الخمر والمخدرات!، فكل مادة إدمانية لها متلازمة أعراض إنسمامية عند الإفراط في تعاطيها أو انسحابية مريعة حال التوقف عنها، على صورة هلاوس بصرية وسمعية وحسية أخرى، وتقلبات مزاجية غير اعتيادية، امتزجت جميعها ليبدأ كتابة القصص الخيالية المرعبة، ويصبح بذلك الأب المُؤسِّس لِمَا عُرِفَ «أَدب الرُّعب» التي حَفلَتْ بالفظائعِ والمخاوفِ المعبرة عن معاناته مع التعاطي وحياته السوداوية خاصة بعد وفاة زوجته، ما أكسبه سمعة سيئة في مجتمع القرن التاسع عشر المحافظ، فذهبوا إلى حد القول بأنه "لا يجب أن يُترك الجمهور مع رجل مثله، غير مستقر عقلياً، يخربشخطوطاً يراها شعراً، وأوهاماً يسوقها قصصاً مرعبة"، وقبل موته بسنتين انغمس في إدمانه أكثر لتتحطم حياته ويموت فقيرًا مَدِينًا مدمناً عنأربعين عامًا.

إنّ الناظر لمسيرة ادجار يراه وكأنه خاض غمار بحر لجي طيلة حياته  البائسة، على قارب بمجداف موهبته فقط، وعلى متنه غدا وحيداً بعدما غادره كل مرافــــقيه تخلياً أو فقداً، فغيـاب القوة الروحانية - المجداف الآخرنقله من سعة الدنيا إلى ضيق الإدمان وعالمه، تلك القوة المضادة للمادية الجوفاء التي يتشدق بها رعاتها ممن تملصوا من أي مرجعية دينية وأخلاقية؛ لذا فالروحانية الايمانية والمادية ككفتي ميزان كلمارجحت واحدة طاشت الأخرىفنجد من تبنى التخلي عن ثوابت الدين وتلاعب بمقاصد النصوص وانتهج فكراً ملتوياً لفهم الموروث، يرى أن منفعة الخمر المذكورة في قوله تعالى "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسمثبتة علمياً بزعم أن تناول كمية قليلة منالكحول يومياً يقي القلب من الأمراض، وصرحوا بذلك في المحافل العلمية واكتضت بها المراجع الأكاديمية، حتى ظهرت نتائج دارسة أجريت على مستوى واسع لتفنّد هذا الاعتقاد، ونشرتها مجلة لانسيت العلمية لتؤكد أنه لا يوجد بين المشروبات الكحولية ما هو آمن للاستهلاك الآدمي.


إنّ من أهملوا مصباح الهدى حتى نفذ زيته وتآكلت فتيلته في ضمائرهم عاشوا حياة بائسة بخسارتهم لقوتهم المعنوية، -التي ما عدنا نملك غيرها بعد اندثار قوتنا الريادية الصلبة-، وحذوا حذو المدنية الغربية بقلة الصبر وترجيح العاجل على الآجل، واتخاذ طرائق المخدرات للهروب من الأزمات أو لمتعة عابرة.


وكم من "ادجاريعيش بيننا، يجمع بين مواهب متنوعة وقلة وعي بقيمنا، فيتبختر بكأس يحمله طرباً أو مخدر يتناوله لداعي الأُنس أو طلب اليقظة، ثم يهيج فتراه مصفراً، ثم يغدو حطاماً كونه وقع بين شري المطرقة والسندان، "إن تعاطى المخدر تسمم وإن امتنع عنه جنّ وتألم"، لذا فالطامح في الاتقاء من شرورها يحصن نفسه بالغايات والقيم النبيلة، وإن أراد الانفكاك منها، ينبغي له بجانب الاستطباب اللجوء لله لمداواة النفس والروح؛ ونذكر ختاماً "جون هيوستن" -الكاتب والممثل والمخرج الاميركي الأوسكاري الذي كان سكيراً سفيهاًفي آخر أيامه كان يمشي على ضفاف المحيط وهو يفكر كيف يمكنه الحصول على فرصة ثانية من (ذلك الذي في العلاولم يحصل عليها؛ بالنسبة لنا، الفرصةالثانية مواربة لا مشقة فيها إلا بمغالبة النفس والتغلب على أهوائها.

الخميس، 8 أبريل 2021

"من يومياتِ طبيب"

"من يوميات طبيب"
في يومٍ صحوٍ منْ شهرِ آذار كنتُ أخطو نحو المسجدِ لصلاةِ العصرِ شاردَ الذهنِ مشتتَ الفكرِ، أُعملُ عقلي في المعضلاتِ التي تكومتْ وأذهبتْ سكونيّ ، - وما عجزتُ عنْ حلها عياءً ولا تسويفاً - بلْ شحتْ قريحتي عنْ الإتيانِ برأيٍ نافذٍ شُح غيمةِ رهجٍ ما تجودُ بقطرةِ ماء؛ وبينما أنا سائرٌ على هذا النحوِ إذْ بي أرى منْ بعيد رجلاً يقفُ سانداً جسمهِ على جدارِ المسجدِ بجوارِ بابهِ، ممسكاً رأسهُ بيُمناه، يلجُ أمامهُ بعضٌ منْ المصلينَ لأداءِ فرضهمْ، ونفرٌ آخرونَ يلتفونَ حولهُ على مسافةٍ بيّنهُ، فأقبلتُ مسرعاً لأجدهُ خمسينياً مذهولاً وسيماء الذعرُ في وجههِ، يسألهُ الناسُ عنْ حالهِ ولا يجيبُ، فيولونهُ ظهورَهمْ ويمضونَ لصلاتِهمْ، متحاشين الاقترابَ منهُ، إذْ توهموا رداتٍ عنيفةً قد تصدرُ عنه !، لذا لمْ يدر أحدٌ ما بهِ ولمْ يحسْ امرُؤٌ بما يشتكي، فاقتربتُ منهُ بتؤدةِ وربتُه على كتفهِ، وجعلتُ أحاولُه وبذلتُ في ذلكَ الجهدِ لطمأنتهِ حتى اطمأنَ لي، عندها سألتهُ عنْ اسمهِ وما يشعرُ بهِ، فأجابَ " أولادي" - بعدها تمتمَ بكلماتٍ غيرِ ذاتِ معنى، فأعدتُ عليهِ استفهامي بصوتٍ عالٍ، فردَّ عليّ بذاتِ الجوابِ، وكانتْ كلمةُ " أولادي" الوحيدةَ بوضوحِ تامٍ دونَ غيرها، رافعاً معها سبابتهُ للسماءِ، شعرتُ بالألمِ والتأثرِ لحالةِ، ما جعلَ عينايَ تغرورقانِ بالدموعِ، فطلبتُ سيارةَ الإسعافِ بدونِ تردد، فصعوبةُ الكلامِ وما بدا لي منْ ضعفهِ وما به من صداع علاماتٌ خطيرةٌ لا يمكنُ تجاهلها، وقدْ تتطورُ على نحوٍ قدْ يودي بحياتهِ "لا سمحَ اللهُ"، وقبلَ أنْ تصلَ سيارةُ الإسعافِ طلبَ إليّ مساعدتهُ على ركنِ سيارتهِ في موقفٍ مناسبٍ، فأبيتُ، لكنهُ ألحَّ بإيماءاتٍ متكررةٍ أنْ يقومَ بذلكَ وبنفسهِ، كانَ نافذَ الصبرِ حتى أنهُ بدأَ يهزني بقوةِ مستعجلاً إيايَ وهوَ ينبرُ بكلمةِ " أولادي"، فأجبتُ واستسلمتُ، واستجمعَ بقايا إدراكهِ وقوتهِ، وأتمّ ما أرادَ وأنا بمعيتهِ ملاصقاً لهُ أراقبُ صنعهُ، ثمَ وجمَ كأنما أُفرغَ عليهِ دلوٌ منْ الماءِ؛ في تيك الآونة وصلتْ سيارةُ الإسعافِ بعد عدةِ دقائقٍ منْ استدعائِها، وهممتُ - وهوَ يمشي معَ المسعفينَ على رجلِيه - بأن آخذَ هيئةَ الجدِ لأؤدّيَ لهُ التحيةُ كما يفعلُ الجنديُ في حضرةٍ منْ يعلوهُ رتبةً، فقدَ دفعَ العمرُ بالرجلِ دفعاً وهوَ يكدُ بلا تراخي وكأنهُ آلةٌ تدورُ، يستحضرُ أولادَهُ في كلِ أحوالهِ، غيرَ عابئٍ بشيءٍ، تحتَ الشمسِ وحرِ الصيفِ، تحتَ الريحِ وقسوةِ الشتاءِ ومطرهِ، يتقبلُ منْ الحياةِ ما شاءتْ أنْ تهبهُ وإنَ أخذتْ بمخنقهْ !، والآن وفيما هوَ فيهِ وقدْ تجلببَ بالعي والهرمُ، وثارتْ عواملُ الهمِ في فكرهِ، وجاشتْ عواملُ الغمِ في صدرهِ واعتركتْ حواسُهُ فأفضتْ إلى ما أفضتْ إليهِ وسوغتْ هذا الطارئ مازالَ لسانهُ يلهج بذكرِ اللهِ ثمَ بذكرهمْ؛ رافقته إلى أنَ استلقى على المِحَفَّةُ، فرمقني بنظرةِ أجالتْ في محياهُ امتناناً أكسبني معنىً للحياةِ لمْ أعهدهُ منْ قبل، امتلأتْ معها نفسي فرحةً لا تنسجم مع هولِ الموقفِ، فاستودعتهُ الله وعدتُ إلى بيتي متفكراً في هيئتهِ الساكنة، وذلكَ الصوتُ المبحوحُ الذي لازمَ ترديدهُ " أولادي"، فوقعُهُ على النّفسِ لا يغالبُ أوْ يقاومُ؛ صليتُ في غرفتيْ صلاةَ العصرِ منفرداً، ورفعتُ يدي مبتهلاً أنْ يجليَ همومَهُ وسقمَهُ، ثمَ رويداً رويداً انغمستُ معَ أهليٍ وعمليٍ، وفي المساءِ تلقيتُ اتصالاً منْ رقمٍ غير معروفٍ، وإذْ بالمتصلِ امرأة عرّفتْ نفسها ب "زوجةُ الرجلِ الذي أنقذتَ حياتَه" ثمّ أنها قالتْ: "إنّ شكري لكَ لجزيل، وإني عاجزةٌ عنْ التعبيرِ عما أشعرُ بهِ لقاءَ إنسانيتكَ"، وأعقبتْ ذلكَ بأنَ أكدّتْ لي ظني "إصابته بجلطةٍ دماغية"، وبأنه يرقدُ جراءَ ذلكَ في العنايةِ المكثفةِ في وضعٍ مستقرٍ -إلى حد ما -، ولولا السرعةُ التي أُنقذ بها لكانَ في وضعٍ أكثرَ مأساوية.
انتهتْ المكالمةُ وأنا أطلبُ إليها أنْ تبقيني على إطلاعٍ -ما أمكنَ- بما يستجدُ عنْ وضعهِ الصحي؛ غيرَ أنَ الأمرَ لمْ ينتهي معي بذلك، فما جرى كانَ إيذاناً بحلحلةِ التعقيدِ والإشكالِ الذي اكتنفَ بعضَ أموري وأرهقَ تفكيري، فموقفيْ معَ الرجلِ خبّأَ لي فرجاً منْ حيثُ لمْ احتسبَ، ولمْ تمضِ تلكَ الليلة إلا وبوادرُ الانفراجِ لاحتْ في الأفقِ، وانقضتْ يومانِ بعدها لأودّعَ آخرَ حلقاتِ الضيقِ التي كبلتني. هذا ما صارَ بالفعلِ، ما زدتُ فيها على الحقيقةِ وما أقمتُ القصةَ على الخيالِ، فمنْ يَعطي النورَ لمنْ حولهِ على الرغمِ منْ خفاياهُ المتعبةِ يُخبّئ لهُ العطاءُ الوافرُ، وبما يتجاوزُ حدودَ خيالهِ.
لقدْ ربحتْ الإنسانيةُ وساماً فاضلاً لأبوةٍ تُغني ما جاءَ بهِ الرجلُ عمنْ سواهُ، لهُ قوةٌ كقوةِ الحديدِ والنارِ في محافلِ الكدِ، يكرُ كرَ الأيامِ، دافعاً الأذى ما استطاعَ عنْ أبنائهِ في كلِ أمرٍ يرومهُ ورزقٍ يطلبهُ؛ والناسُ في دنياهمْ إما إخوةٌ في الدينِ أوْ نظراءٌ في الخلقِ، يلينونَ بقلوبهمْ معَ أوجاعِ بعضهمْ، إِذْ لَا قِيمةَ لِلوُجُودِ إِنْ لَمْ يَكنْ مِنْ شمائلِنا غاياتٍ مُورِقَةً نجبرُ بِهَا عثراتِ قلوبٍ ثَكلى، وَنَسقِيَ بِهَا الأَملَ لِأَروَاحٍ عَطْشَى، تلكَ هي الحياةُ وبهَا نَقْتَفِي معْنَى الخُلُودِ.

الاثنين، 22 مارس 2021

الكهف والمغارة

 عاد الزوج إلى بيته مهموماً عابسًا لأمور ألمت به، مرتجياً راحة يكتنزها من لقاء زوجته "إنْ قابلته بوجه طلق وابتسامة مشرقة"، والزوجة بالمقابل كانت تنتظره مثخنة بالملل ومرهقة من رعاية الأبناء ترصدُ قدومَه مبتسماً مرحاً، فلما رأته مكفهر الوجه معرضاً تقهقرتْ وخابَ ظنُها وأعرضت بإعراضه؛ ونأى كلاهما بجانبه، منعزلاً ينظرُ من طرفٍ خفي؛ متوهماً استحقاقه لاعتذار ومبادرة الآخر! فلما عز عليهما ذلك وزاد الجفاء واتسع الخرقُ على الراقعِ، أصبحتْ كل إيماءة أو كلمة من أحدهما تفرطُ خرزةً من سبحة الوصل، حتى غدا الخيط فارغاً تطيره الرياح حيثما شاءت بعيداً عن سبل الإصلاح، ولم يبق لهما سوى الطلاق شاهداً على سوء تقديرهما.

قد يُنظر لتداعياتِ الموقفِ المذكورِ بعينِ ترى التضخيمَ جاثياً عليه، جانياً على سردِه، غيرَ أن النارَ توقدُ من مستصغرِ الشرر، فكم من بيوتٍ تأججتْ نيرانُ حرقها من كلمةٍ قِيلتْ في غيرِ مكانها وزمانها المناسبين، أو أن طرفا الحديثِ لم يكونا في ذروة التفهم والتقدير، تلك الذروة التي تتفق ومساق الحفاظ على ديمومةِ الأسرة؛ ويرى روادُ العلاجِ النفسي في العلاقاتِ الزوجية "أن للحوار بين الزوجين خصوصية شكلتها أبعادٌ مختلفة منها تلك المحفورة في ذاكرةِ الإنسانِ عن أسلافه الصيادين من الحقبةِ البدائية"، فإنسان ذلك الماضي البعيد كان يعودُ من رحلةِ الصيدِ منهكاً، - "قد عطبتْ أسلحتهُ أو فُقدتْ، نفذتْ سهامُهُ أو تآكلتْ نصالُهُ، شارفَ على الموتِ أو رأى هلاكَ أحد أفراد المجموعة أو أوشك من ذلك، فريسة أضاعها أو كاد"-، صورٌ تعانقُ أفكارَه المندفعةَ كخيولٍ جامحةٍ تركض بلا توقف، ولا تربض سوى أمام وهج النار التي أوقدها في كهفه، فيقعد أمامها ليدخل عالمه مستغرقاً ومندمجاً ليستريح من عناء رحلته، ويشبع حاجة ضرورية للانفراد بذاته، يراقبُ ألسنةَ النارِ ودخانَها المتراقص حولها، محللاً للأحداث التي واجهها، محاولاً حل ما استحكمت عقدتُه، فيستمر على تلك الحالة الكهفية إلى أن تصفو سماءه ويصبح جوه سجواً؛ فيغادره ويلتقي بزوجته وأحبته بعدها، متهيئاً للتواصل معهم؛ وفي عصرنا هذا يحدث ذاتُ الأمرِ للرجل، إذ يعودُ لمنزلهِ وقد أعياه يومُه، لائذاً بكهفه "مجازاً" ليسترخي بعد خوضه معارك الساعات الأخيرة، أمام شاشة التلفاز -مثلاً-، مغلقاً كل حواسه عن محيطه، يحرك قنواتِه صعوداً ونزولاً، كأنها نارٌ يرصدُ ألسنتها، يراجعُ تعاملاتِه مع الآخرين، وما أفضت إليه مهاراتُه التي استخدمها، - وهي ما توازي حروبَ أسلافِه وأسلحتهِم-، مفرغاً  بذلك طاقته السلبية.

ويأتي هنا دور الزوجة الناضجة من وعتْ ظلمةَ ذلك الكهفِ وضرورةَ سكنى زوجِها فيه، وما يمكنها فعله حتى يخرج منه وَضِيءٌ الوجه مشرقاً، لتستقبله طَلقة المُحيَّا، وتقابل صمتَه بصمتٍ وتقبّل، مدركة حدود الاقتراب منه، وفي مرمى بصره، فإن أراد خروجاً من كهفه مد يده ليجد يدها فيمسك بها، إيذاناً بالغمر العاطفي منها ولها، فيكون أكثر إيجابيةً وتفاعلاً معها؛ والمرأة الحصيفة تعرف أن اقتحام خلوته قد يُخرج لها تنيناً من الكهف ينفث عليها ناره، وإنْ كررتْ ذلك سيبحث عن كهف آخر خارج منزله !، أو ربما يقع أبغض الحلال، وتعلم أيضًا أن وحدته المؤقتة لا تعني ضجراً منها، أو عزوفاً عنها، ولا تعني أبداً توقفه عن حبها، ولا تعني إطلاقاً الاستغناء عنها.

إن كان ما سبق يُعرف بكهفِ الرجل، فإنّ هناك مغارةُ المرأة، تجعلُ لها حقاً بالمقابل على الرجلِ يراعي به خصوصيتها المكفولة بطبيعةِ جسدِها واختلافِ أحتياجها "اللا موعي" الموروث، فجسدُ المرأةِ يتعرضُ لمداهماتِ الدورةِ الشهريةِ بآلامِها وتغيرِ مزاجِها المرتبط بمستوى الهرمونات المترأجحة، وما قد يترتب عليه من معاناةٍ قد يصل لاضطرابِ نفسي يدعى "اضطراب سوء المزاج ما قبل الطمث" لدى بعضهن، ثم هناك الحمل والولادة والرضاعة وما إلى ذلك من ضغوط، ليس آخرها-بالطبع- تربية الابناء والاهتمام بالمنزل، ناهيك عن وضع المرأة العاملة، وهناك ما يقال همساً في أذني كل فاضل ليأخذ بعين الرجولة مراعاة فراقها وطنها وذويها بعداً مؤقتًا أو فقد أبدياً في بعض الأحوال؛ لتأتي مع ذلك كله طبيعتها المختلفة عن الرجل -إلى حد ما- بتفضيلها التنفيس بالحديث والحوار التي يطلب إنصاتاً من المستمع محفوفاً بالتفهم والمواجدة، وكأنها في داخل مغارة عميقة تسمع صدى صوتها يأتيها منبوراً جلياً، فهي تبحث غالباً عمن يسمع، لا من يتبرع بالحلول.

 إنّ الإفراطَ في الجدِ لفهمِ احتياجِ الزوجين ليس بإسراف، والعكوفَ على جودةِ التواصل بينهما لا يعد مضيعة للوقت، والإتيان بتلك المهارات وإجادتها من الضروريات؛ كونها - بلا مرية ولا شك- ستُمكنهما من احتواء بعضهما في الأحوال المختلفة بما يحفظ كيانَ الأسرة ويُبقي الودَ بينهما.

د. خالد أحمد عبدالجبار 

إستشاري الطب النفسي واختصاصي العلاج المعرفي السلوكي