السبت، 4 نوفمبر 2017

(دقيقتان فقط)

استوقف رجل الأمن أولئك الفتية الذين امتلأت بهم ساحات المجمع السكني، فكثير منهم لم يرهم من قبل، أخذ يسألهم عن أسمائهم وأرقام مساكنهم كعمل روتيني. نطق أحد الفتية الزوار للمكان بعد أن غرق في تساؤلاته: "لماذا كل هذه الاحتياطات الزائدة؟" بصوت يعلوه الاستنكار والغضب، أشرق وجهُ الرجلِ المتهالكِ بابتسامةٍ خاطفة، وقال: هذا واجبي، ثم غادرَ متوشحًا بثوب من الحياء أن قطع عليهم تسليتهم.
والدي! كأنما يستعير رجلُ الأمنِ الهيبةَ والجدارةَ من سؤالنا؟! كانت هذه جملة أحمد التي استوقفت والده وهو يحكي له ما حدث أثناء تناولهما العشاء.
نظرَ إليه الأبُ مبتسمًا؛ ليُتمَّ قراءةَ ما بدأه على صفحة وجه أبنه، الذي ما انفك يبرر قتامةَ لفظهِ من بين كل الفتية، إلا أن الله أراد الخير للجميع!
في اليوم التالي قرر أبوه أن يسطّر درسًا من الإنسانية على جبين ابنه اليافع؛ فأخذه وتوجه به إلى ذات المجمع ليقابل رجل الأمن.
وما إن وصلا للبوابة استقبلهما الرجل وعَرَفَه الأب من وصف ابنه، فهو شاب أفريقي تعلوه إبتسامة طفولية فاضحة لجوهر إنسان يبحث عن ذاته .
حياهُ الأبُ وعرّفه بنفسه ومن ثم استطرد قائلاً هذا ابني أحمد، يشكر لك لطفك معه البارحة، وحرصك على أمنهم، وأنا اشكرك أن علمتهم النّظام، واحترام قوانين المكان. كان الرجل حينها يتحدث من خلال الكوة المطلة من غرفة البوابة على سيارتهم جالسًا متعبًا، فما إن سمع ذلك حتى وقف كأنما أُنْشِطَ من عِقَال.
حقًا؟ لقد خلته غاضبًا مني! ثم أكملا حديثهما لدقائق بعد أن قدّم نفسه قائلاً اسمي كيفن، وأنا من كينيا، ومهنتي اخصائي صعوبات تعلم؛ وأما سبب عملي كرجل أمن فهو لقلة فرص العمل في مجالي.
رد عليه الأب، إن مكانك هذا لا يُريك مستقبلك أبدًا، اهتم بنفسك يا عزيزي وشق طريقك برؤية أخرى.
غادر الأب وابنه مودعين، وكيفن ينظر إليهما ولا يدري كم مرّ عليه من الوقت؛ لكنه حين انتبه إلى نفسه، وجد دموعه تنهمر غزيرةً على خدّيْه لتنتهي به إلى تمتمات من الشكر .
تكررت المواقف تباعًا بسبب رفقة الأب لابنه، حيث كان يقضي الأب لمدة لا تتجاوز الدقيقتين في حديث عابر مع كيفن يسأله عن أحواله ليخفف عنه غربته.
وغاب الأب بسبب انشغاله لأسبوعين ليلتقي لاحقًا بكيفن أثناء توصيله لابنه لزيارة أصدقاءه كما جرت العادة، فما أن وصل عند البوابة حتى بادره كيفن بالسؤال عَنْه، ثم أضاف، سيدي هل تعلم أنك غيرت حياتي! فأنت بوقوفك معي في كل مرة لدقيقتين، في حين عشرات العربات تعبر بوابتي دون أدنى إلتفات من أحد، جعلني أشعر بآدميتي وبقيمتي وحين كنت تبتسم لي وتشاركني همومي، وتحاول مساعدتي، حفزتني لكي اقرأ عن الإسلام، الذي رأيته فيك أخلاقًا ومعاملة. فانكببت أقرأ عنه أكثر حتى توجهت من عدة أيام الى الجامع الكبير بصحبة أحد الأصدقاء المسلمين وأعلنت إسلامي وحاولت الوصول إليك لأبشرك ولكني لم أتمكن من ذلك.
أما المفاجأة يا سيدي أني حدثت خطيبتي في كينيا عن إسلامي فأسلمت معي وقمت بدوري وأرسلت مرتبي إلى كينيا لأقوم ببناء مسجد صغير في قريتي بمعاونة أحد المسلمين هناك.
دقيقتان يا سيدي جعلت مني حسن بدل كيفن، دقيقتان من إنسانيتك الصادقة أدخلت النور في قلبي وسأسعى لأكون مسلمًا يلهم الناس كما ألهمتني لأكون نبراسَ هدى لغيري.

الكلمة الطيبة والإبتسامة الصادقة والخلق الحسن لهم جميعاً مفعول السحر على حياة الآخرين؛ فلا تبخل عليهم بكلمةٍ تشُدُ أزرهم أو ابتسامة تعطهم الأملَ أو خلق حسن يعينهم على مجابهة مصاعب الحياة وتكون نقطة تحول لمن يتلقاها. والناجح يسعى لإنجاح من حوله وأثق أنك من الناجحين؛ فقم بدورك وساعد من حولك.