الخميس، 8 أبريل 2021

"من يومياتِ طبيب"

"من يوميات طبيب"
في يومٍ صحوٍ منْ شهرِ آذار كنتُ أخطو نحو المسجدِ لصلاةِ العصرِ شاردَ الذهنِ مشتتَ الفكرِ، أُعملُ عقلي في المعضلاتِ التي تكومتْ وأذهبتْ سكونيّ ، - وما عجزتُ عنْ حلها عياءً ولا تسويفاً - بلْ شحتْ قريحتي عنْ الإتيانِ برأيٍ نافذٍ شُح غيمةِ رهجٍ ما تجودُ بقطرةِ ماء؛ وبينما أنا سائرٌ على هذا النحوِ إذْ بي أرى منْ بعيد رجلاً يقفُ سانداً جسمهِ على جدارِ المسجدِ بجوارِ بابهِ، ممسكاً رأسهُ بيُمناه، يلجُ أمامهُ بعضٌ منْ المصلينَ لأداءِ فرضهمْ، ونفرٌ آخرونَ يلتفونَ حولهُ على مسافةٍ بيّنهُ، فأقبلتُ مسرعاً لأجدهُ خمسينياً مذهولاً وسيماء الذعرُ في وجههِ، يسألهُ الناسُ عنْ حالهِ ولا يجيبُ، فيولونهُ ظهورَهمْ ويمضونَ لصلاتِهمْ، متحاشين الاقترابَ منهُ، إذْ توهموا رداتٍ عنيفةً قد تصدرُ عنه !، لذا لمْ يدر أحدٌ ما بهِ ولمْ يحسْ امرُؤٌ بما يشتكي، فاقتربتُ منهُ بتؤدةِ وربتُه على كتفهِ، وجعلتُ أحاولُه وبذلتُ في ذلكَ الجهدِ لطمأنتهِ حتى اطمأنَ لي، عندها سألتهُ عنْ اسمهِ وما يشعرُ بهِ، فأجابَ " أولادي" - بعدها تمتمَ بكلماتٍ غيرِ ذاتِ معنى، فأعدتُ عليهِ استفهامي بصوتٍ عالٍ، فردَّ عليّ بذاتِ الجوابِ، وكانتْ كلمةُ " أولادي" الوحيدةَ بوضوحِ تامٍ دونَ غيرها، رافعاً معها سبابتهُ للسماءِ، شعرتُ بالألمِ والتأثرِ لحالةِ، ما جعلَ عينايَ تغرورقانِ بالدموعِ، فطلبتُ سيارةَ الإسعافِ بدونِ تردد، فصعوبةُ الكلامِ وما بدا لي منْ ضعفهِ وما به من صداع علاماتٌ خطيرةٌ لا يمكنُ تجاهلها، وقدْ تتطورُ على نحوٍ قدْ يودي بحياتهِ "لا سمحَ اللهُ"، وقبلَ أنْ تصلَ سيارةُ الإسعافِ طلبَ إليّ مساعدتهُ على ركنِ سيارتهِ في موقفٍ مناسبٍ، فأبيتُ، لكنهُ ألحَّ بإيماءاتٍ متكررةٍ أنْ يقومَ بذلكَ وبنفسهِ، كانَ نافذَ الصبرِ حتى أنهُ بدأَ يهزني بقوةِ مستعجلاً إيايَ وهوَ ينبرُ بكلمةِ " أولادي"، فأجبتُ واستسلمتُ، واستجمعَ بقايا إدراكهِ وقوتهِ، وأتمّ ما أرادَ وأنا بمعيتهِ ملاصقاً لهُ أراقبُ صنعهُ، ثمَ وجمَ كأنما أُفرغَ عليهِ دلوٌ منْ الماءِ؛ في تيك الآونة وصلتْ سيارةُ الإسعافِ بعد عدةِ دقائقٍ منْ استدعائِها، وهممتُ - وهوَ يمشي معَ المسعفينَ على رجلِيه - بأن آخذَ هيئةَ الجدِ لأؤدّيَ لهُ التحيةُ كما يفعلُ الجنديُ في حضرةٍ منْ يعلوهُ رتبةً، فقدَ دفعَ العمرُ بالرجلِ دفعاً وهوَ يكدُ بلا تراخي وكأنهُ آلةٌ تدورُ، يستحضرُ أولادَهُ في كلِ أحوالهِ، غيرَ عابئٍ بشيءٍ، تحتَ الشمسِ وحرِ الصيفِ، تحتَ الريحِ وقسوةِ الشتاءِ ومطرهِ، يتقبلُ منْ الحياةِ ما شاءتْ أنْ تهبهُ وإنَ أخذتْ بمخنقهْ !، والآن وفيما هوَ فيهِ وقدْ تجلببَ بالعي والهرمُ، وثارتْ عواملُ الهمِ في فكرهِ، وجاشتْ عواملُ الغمِ في صدرهِ واعتركتْ حواسُهُ فأفضتْ إلى ما أفضتْ إليهِ وسوغتْ هذا الطارئ مازالَ لسانهُ يلهج بذكرِ اللهِ ثمَ بذكرهمْ؛ رافقته إلى أنَ استلقى على المِحَفَّةُ، فرمقني بنظرةِ أجالتْ في محياهُ امتناناً أكسبني معنىً للحياةِ لمْ أعهدهُ منْ قبل، امتلأتْ معها نفسي فرحةً لا تنسجم مع هولِ الموقفِ، فاستودعتهُ الله وعدتُ إلى بيتي متفكراً في هيئتهِ الساكنة، وذلكَ الصوتُ المبحوحُ الذي لازمَ ترديدهُ " أولادي"، فوقعُهُ على النّفسِ لا يغالبُ أوْ يقاومُ؛ صليتُ في غرفتيْ صلاةَ العصرِ منفرداً، ورفعتُ يدي مبتهلاً أنْ يجليَ همومَهُ وسقمَهُ، ثمَ رويداً رويداً انغمستُ معَ أهليٍ وعمليٍ، وفي المساءِ تلقيتُ اتصالاً منْ رقمٍ غير معروفٍ، وإذْ بالمتصلِ امرأة عرّفتْ نفسها ب "زوجةُ الرجلِ الذي أنقذتَ حياتَه" ثمّ أنها قالتْ: "إنّ شكري لكَ لجزيل، وإني عاجزةٌ عنْ التعبيرِ عما أشعرُ بهِ لقاءَ إنسانيتكَ"، وأعقبتْ ذلكَ بأنَ أكدّتْ لي ظني "إصابته بجلطةٍ دماغية"، وبأنه يرقدُ جراءَ ذلكَ في العنايةِ المكثفةِ في وضعٍ مستقرٍ -إلى حد ما -، ولولا السرعةُ التي أُنقذ بها لكانَ في وضعٍ أكثرَ مأساوية.
انتهتْ المكالمةُ وأنا أطلبُ إليها أنْ تبقيني على إطلاعٍ -ما أمكنَ- بما يستجدُ عنْ وضعهِ الصحي؛ غيرَ أنَ الأمرَ لمْ ينتهي معي بذلك، فما جرى كانَ إيذاناً بحلحلةِ التعقيدِ والإشكالِ الذي اكتنفَ بعضَ أموري وأرهقَ تفكيري، فموقفيْ معَ الرجلِ خبّأَ لي فرجاً منْ حيثُ لمْ احتسبَ، ولمْ تمضِ تلكَ الليلة إلا وبوادرُ الانفراجِ لاحتْ في الأفقِ، وانقضتْ يومانِ بعدها لأودّعَ آخرَ حلقاتِ الضيقِ التي كبلتني. هذا ما صارَ بالفعلِ، ما زدتُ فيها على الحقيقةِ وما أقمتُ القصةَ على الخيالِ، فمنْ يَعطي النورَ لمنْ حولهِ على الرغمِ منْ خفاياهُ المتعبةِ يُخبّئ لهُ العطاءُ الوافرُ، وبما يتجاوزُ حدودَ خيالهِ.
لقدْ ربحتْ الإنسانيةُ وساماً فاضلاً لأبوةٍ تُغني ما جاءَ بهِ الرجلُ عمنْ سواهُ، لهُ قوةٌ كقوةِ الحديدِ والنارِ في محافلِ الكدِ، يكرُ كرَ الأيامِ، دافعاً الأذى ما استطاعَ عنْ أبنائهِ في كلِ أمرٍ يرومهُ ورزقٍ يطلبهُ؛ والناسُ في دنياهمْ إما إخوةٌ في الدينِ أوْ نظراءٌ في الخلقِ، يلينونَ بقلوبهمْ معَ أوجاعِ بعضهمْ، إِذْ لَا قِيمةَ لِلوُجُودِ إِنْ لَمْ يَكنْ مِنْ شمائلِنا غاياتٍ مُورِقَةً نجبرُ بِهَا عثراتِ قلوبٍ ثَكلى، وَنَسقِيَ بِهَا الأَملَ لِأَروَاحٍ عَطْشَى، تلكَ هي الحياةُ وبهَا نَقْتَفِي معْنَى الخُلُودِ.