السبت، 4 نوفمبر 2017

(دقيقتان فقط)

استوقف رجل الأمن أولئك الفتية الذين امتلأت بهم ساحات المجمع السكني، فكثير منهم لم يرهم من قبل، أخذ يسألهم عن أسمائهم وأرقام مساكنهم كعمل روتيني. نطق أحد الفتية الزوار للمكان بعد أن غرق في تساؤلاته: "لماذا كل هذه الاحتياطات الزائدة؟" بصوت يعلوه الاستنكار والغضب، أشرق وجهُ الرجلِ المتهالكِ بابتسامةٍ خاطفة، وقال: هذا واجبي، ثم غادرَ متوشحًا بثوب من الحياء أن قطع عليهم تسليتهم.
والدي! كأنما يستعير رجلُ الأمنِ الهيبةَ والجدارةَ من سؤالنا؟! كانت هذه جملة أحمد التي استوقفت والده وهو يحكي له ما حدث أثناء تناولهما العشاء.
نظرَ إليه الأبُ مبتسمًا؛ ليُتمَّ قراءةَ ما بدأه على صفحة وجه أبنه، الذي ما انفك يبرر قتامةَ لفظهِ من بين كل الفتية، إلا أن الله أراد الخير للجميع!
في اليوم التالي قرر أبوه أن يسطّر درسًا من الإنسانية على جبين ابنه اليافع؛ فأخذه وتوجه به إلى ذات المجمع ليقابل رجل الأمن.
وما إن وصلا للبوابة استقبلهما الرجل وعَرَفَه الأب من وصف ابنه، فهو شاب أفريقي تعلوه إبتسامة طفولية فاضحة لجوهر إنسان يبحث عن ذاته .
حياهُ الأبُ وعرّفه بنفسه ومن ثم استطرد قائلاً هذا ابني أحمد، يشكر لك لطفك معه البارحة، وحرصك على أمنهم، وأنا اشكرك أن علمتهم النّظام، واحترام قوانين المكان. كان الرجل حينها يتحدث من خلال الكوة المطلة من غرفة البوابة على سيارتهم جالسًا متعبًا، فما إن سمع ذلك حتى وقف كأنما أُنْشِطَ من عِقَال.
حقًا؟ لقد خلته غاضبًا مني! ثم أكملا حديثهما لدقائق بعد أن قدّم نفسه قائلاً اسمي كيفن، وأنا من كينيا، ومهنتي اخصائي صعوبات تعلم؛ وأما سبب عملي كرجل أمن فهو لقلة فرص العمل في مجالي.
رد عليه الأب، إن مكانك هذا لا يُريك مستقبلك أبدًا، اهتم بنفسك يا عزيزي وشق طريقك برؤية أخرى.
غادر الأب وابنه مودعين، وكيفن ينظر إليهما ولا يدري كم مرّ عليه من الوقت؛ لكنه حين انتبه إلى نفسه، وجد دموعه تنهمر غزيرةً على خدّيْه لتنتهي به إلى تمتمات من الشكر .
تكررت المواقف تباعًا بسبب رفقة الأب لابنه، حيث كان يقضي الأب لمدة لا تتجاوز الدقيقتين في حديث عابر مع كيفن يسأله عن أحواله ليخفف عنه غربته.
وغاب الأب بسبب انشغاله لأسبوعين ليلتقي لاحقًا بكيفن أثناء توصيله لابنه لزيارة أصدقاءه كما جرت العادة، فما أن وصل عند البوابة حتى بادره كيفن بالسؤال عَنْه، ثم أضاف، سيدي هل تعلم أنك غيرت حياتي! فأنت بوقوفك معي في كل مرة لدقيقتين، في حين عشرات العربات تعبر بوابتي دون أدنى إلتفات من أحد، جعلني أشعر بآدميتي وبقيمتي وحين كنت تبتسم لي وتشاركني همومي، وتحاول مساعدتي، حفزتني لكي اقرأ عن الإسلام، الذي رأيته فيك أخلاقًا ومعاملة. فانكببت أقرأ عنه أكثر حتى توجهت من عدة أيام الى الجامع الكبير بصحبة أحد الأصدقاء المسلمين وأعلنت إسلامي وحاولت الوصول إليك لأبشرك ولكني لم أتمكن من ذلك.
أما المفاجأة يا سيدي أني حدثت خطيبتي في كينيا عن إسلامي فأسلمت معي وقمت بدوري وأرسلت مرتبي إلى كينيا لأقوم ببناء مسجد صغير في قريتي بمعاونة أحد المسلمين هناك.
دقيقتان يا سيدي جعلت مني حسن بدل كيفن، دقيقتان من إنسانيتك الصادقة أدخلت النور في قلبي وسأسعى لأكون مسلمًا يلهم الناس كما ألهمتني لأكون نبراسَ هدى لغيري.

الكلمة الطيبة والإبتسامة الصادقة والخلق الحسن لهم جميعاً مفعول السحر على حياة الآخرين؛ فلا تبخل عليهم بكلمةٍ تشُدُ أزرهم أو ابتسامة تعطهم الأملَ أو خلق حسن يعينهم على مجابهة مصاعب الحياة وتكون نقطة تحول لمن يتلقاها. والناجح يسعى لإنجاح من حوله وأثق أنك من الناجحين؛ فقم بدورك وساعد من حولك.

السبت، 26 أغسطس 2017

( وأد الغلو )

تحكي أسطورةٌ يونانية عن قاطعِ طريق يدعى "بروكرست" والذي كان يعيش في منطقة أتيكا باليونان، وكانت له طريقة غريبة في التعامل مع ضحاياه والإجهاز عليهم؛ فقد كان يستدرج ضَحِيّته ويضيِّفه ويكرمه، وبعد العشاء يدعوه إلى النوم على سريره الحديدي الخاص، ويصفه بأنه سريرٌ لا مثيل له بين الأَسِرة؛ إذ كان يتميز بميزة عجيبة، وهي أن طول السرير يلائم دائمًا مقاس النائم أيًا كان، غير أن بروكرست لم يكن يفسر لضيوفه كيف يمكن لسريره أن يناسب مقاس الجميع رغم اختلاف أطوالهم! حتى إذا ما استلقى الضحية على السرير، بدأ بروكرست بإثبات معجزة سريره؛ فالقصير يقوم بربطه بإحكام ويشد رجليه ليمطهما إلى الحافة، وأما طويل القامة فيقوم ببتر رجليه ليقطع ما يتجاوز منها السرير حتى ينطبق تمامًا مع طوله!! وظل هذا دأبُه إلى أن لقي جزاءَه العادل على يد البطل الإغريقي "ثيسيوس" الذي أذاقه من نفس الكأس، وأخضعه لنفس المـُثلة؛ فأضجعه على ذات السرير وقطع رقبته لينسجم مع طول سريره.
فأصبح مصطلح ( البروكرستية ) أو سرير بروكرست يطلق على أيَّةِ نزعةٍ تهدف لفرض القولبة على الأشياء، أو تنميط الأشخاص، أو ليِّ النصوص، أو تشويه الحقائق وتلفيق المعطيات، وتزوير البيانات؛ لكي تتفق قسرًا مع مخطط ذهني مسبق، إنه القولبة الجبرية، والإنسجام الملفق، وهي إحدى طقوس الغُلاة لأيِّ مَسْلَكٍ أو طريقة؛ لسوق العامة لاتباع فرضية تنقصها الأدلة الدامغة، فتحشدهم بالجهل والعاطفة المنفردة بعيدًا عن قياس العقل.
إن من يتبنى آراءً متطرفة حول قضية من القضايا، ويحاول إقناع الآخرين بها، هو كمن يشيد صرحًا من الأوهام المزعجة على أساس غير متين من الحجج والبراهين، ويسعى جاهدًا لتلفيق التهم لكل من خالف، ومنمطًا لكل من حالف، كارهًا لمحاولات الفهم والاستدلال؛ فتكون النتيجة في مخيلته فريقان؛ مع أو ضد، ما يؤدي نهايةً لانكسار المجتمع، وتنوُّع العداوات بين أفراده.
لذا وجب التنويه حول أساليب الغُلاة لحماية السِلم المجتمعي وأيضًا لاحتوائِهم بتنويرهم وجدالهم بالتي هي أحسن، كمرحلة أولى من تثقيفهم وزيادة إدراكهم، فكم من ثيسيوس نحتاج لوأدِ كلِّ غلو منفلت غير قابل للترويض!!

الثلاثاء، 9 مايو 2017

( عروسُ القُرى )
في قريةٍ من قرى جزيرة العرب، وفي حقبة زمنية قريبة؛ كانت تعيش فتاةٌ عشرينيةٌ تُدعى سمية، نحيلة، خمرية، لم تكن قبيحةً، بَيْدَ أنَّ أعدَلَ الناسِ لا يستطيع أن يصنِّفها بأكثرَ من عادية. كانت إذا مشت أِحْدَوْدَبَ ظَهرُها وانحنى رأسُها، وكأنها تخشى خيالَها، وكان والِدُها قد امتلئ خوفًا من أن تبقى عزباء.

وكان من تقاليد الزواج أن يكون المهرُ من الإبل، ومقدارُ المهرِ يتوازى مع مستوى جمالِ العروس، أى أنه في مقابل ناقتين أو ثلاث يمكن الزواج بامرأةٍ تتراوح مواصفاتها بين الحسن والجمال المتوسط، وبأربع نياق أو خمس يمكن الزواج بأخرى فائقة الجمال.
وفي احد أيام مهرجان جني النخيل المقام في القرية, جاء شاب يدعى وديع من قريةٍ مجاورة، وكان من أشهر التجارِ في المنطقة.
وأثناء وجوده في المهرجان رأى سمية، رآها بارتفاعِ كتفيها وانحناءِ ذقنها ورقة جِيدِها وبريقِ عينيها؛ ما يدل على عزةِ نفسٍ ممزوجةٍ بخجلٍ وجمالٍ لم يستطع أحدٌ فهمَه وتقديرَه.
وقعت في قلبه؛ فقطع حديثه مع التاجرِ وسألَه عنها؛ فأخبرَه بأنَّها ابنةُ السيد آدم.
أرسل بديع إلى والدها يخبره بأنه قادم لخطبة ابنته؛ فاجتمع الأب بإخوته يتشاورون، فربما التبس عليه اسم الفتاة التي يريد الزواج بها، كون بديع معروف بغناه ورجولته وذكاءه وهذا كثير على سمية! فنصحوه بأنه في حال التأكد من رغبته الزواج بسمية، أن يطلب منه ثلاث من النياق ثم ليثبت على اثنتين، كونهم متأكدون من أنَّ بديعَ سيقدم ناقةً وَاحِدَة.
جاء بديع إلى منزل آدم في موعده وقال: يا أبا سمية! إني أتقدم لخِطبة ابنتك ومهرُها عَشْرُ نياق.
تفاجأ الحضور، إذ لم يُدفع مهرٌ بهذه القيمة قَط! فتزوجها وعادَ بها الى قريته. بعد فترةٍ جاءَ لزيارتِه أخوه الذي غادرَ منذ زمن، بعدما وصله ما يتناقَلَه الناسُ الذين ما انفكوا يتسائلون عن سببِ المهر الذي دُفِعَ!
جلس الأخوان بعد لقائِهما في الفناء؛ حيث كانت سميةُ تقومُ بسقي الزهور، فرآها أخوه وهي تدخل المنزل، وعند البابِ وقفتْ تبتسِمُ لزوجِها ثم دخلت مسرعة.
التفتَ إليّه بديع وهمسَ: هل تستحِق العشر نياق؟
أجابه: إنها رائعة. غير أنها ليست سمية التي يتحدث عنها الناس!
قال: ثمة سمية واحدة. قد لا تبدو كما وصفوها.
أجاب أخوه: سمعت أنها كانت عادية فكيف لها أن تكون مختلفةً إلى هذا الحد؟
سأله بديع : هل تبادرَ إلى ذِهْنِكَ ماذا يعني أن تدرك امرأةٌ أن زوجَها أبخَسَ مهرها؟! إن النساءَ هنا عندما يتحدثن؛ فإنهن يُفاخِرْنَ بما دفعَه أزواجُهن مهرًا لهُنّ. 
فتقول إحداهن: مهري أربع نياق وأخرى تقول: خمساً. عندها كيف سيكونُ شعورُ المرأةِ التي كانَ مهرُها ناقةً واحدةً أو اثنتين؟! إن هذا الشعور لا يمكن أن أُسَبِبَه لِسُمية.
قَال: إذن أنت فعلت هذا فقط لتسعدها؟!
قال: نعم، غير أني أردت أكثر من ذلك، أردتُها أن تسعدَ لأسعدَ أنا، فبث القيمة في ذاتها يمكن أن يصنع منها عظيمةً فاضلةً في داخلها, فتطرأ عليها فتنةٌ آخذةٌ في مَظهَرِها، إن الأهم هو ما يفكر فيه المرءُ حولَ نفسه. لقد اعتقدَتْ سميةُ في قريتها أنها لا تساوي شيئًا. والآن هي تعرف أنها تساوي أكثرَ من أي امرأة أخرى.
قال أخوه: إذًا كنت تريد ...
قاطعه: كنتُ أريدُ أن أتزوجَ امرأةً تعرِفُ قيمتَها؛ فَتُسْعِدُني.
قال أخوه: ولكن ...
قاطعَه وختمَ بلُطْفٍ قائلاً: كنت أريدُ زوجةً تَزِنُ ذهبًا، وليس ما تعارفَ عليه الناس.

الأحد، 2 أبريل 2017

 قد تكون فعلاً على حق !
كانت هناك رخامة عظيمة في حوزة مجلس الأعمال في فلورنسا؛ يبلغ ارتفاعها ثلاثة عشر قدماً ونصف القدم، وكانت منحوتة لتمثال رجلٍ لم تكتمل، وبقيت مهملة عندهم لمئة عام!! فعهدوا للفنان مايكل أنجلو أن ينحت منها عملا مفيدًا. ظل مايكل أنجلو يكدح في هذه المادة القاسية عامين ونصف؛ حتى انتزع منها بجده وبطولته رائعته، تمثال النبي (داود) وهو يحمل المِقلاع على كتفه اليسرى وبيده اليمنى الحجر؛ وبعد انتهائِه، قام مجلس الأعمال بدعوة كبار رجال الفن في فلورنسا؛ ليبدوا رأيهم في التمثال وليقرروا أين يمكن وضعه، إلا أن المفاجأة كانت في انتقاد رئيس المجلس لأنف التمثال، فعلم مايكل أنجلو أن الرجل كان ينظر من زاوية أثرت المسافة وانكسار الضوء على رؤيته منها، فطلب منه أن يغير مكانه حتى لا يتسخ بغبار الرخام، كونه سيقوم بتعديل ذلك العيب أمام الحضور بإزْميله، متظاهرًا بموافقته على رأيه، وصعد أنجلو ومعه إزْميله وحفنة من تراب الرخام، وأخذ يضرب بالإزْميل تمثيلاً، ويلقي الغبار من يده الأخرى على الأرض متظاهرًا بإصلاحِه من زاوية مُغلقة لا يرى حقيقةَ ما يقوم به أيٌ من الحضور.

فور انتهائه استدار أنجلو؛ ليمسحَ وجه التمثال وهو يقول: ما رأيك الآن يا سيدي؟! فقام الرجل ومن معه من رجال الفن بالتصفيق وأجزلوا له العطاء.

لقد صنع إزْميل (أنجلوا) صورة واحدة لداود؛ وتلاشت بقية الصور!! ونحت إزْميله أيضًا تمثالاً للمرونة النفسية؛ لتزول أمامها كل صور التصلب لأحادية الرأي، تلك المرونة التي تتراجع خطوةً لمراجعة الموقف واستقراءه لتُكْسِبَ الحق الذي لديها زخم التقدم بقية المسافة وتحظى بالسباق.

إن المرونة هي أمُ كل المهارات النفسية، فمن خلالها يستطيع المرء التعرف على الوزن النسبي لما لديه من آراءٍ وتوجهاتٍ واجتهادات، ومن خلالها أيضًا يستطيع رؤية ما يراه الآخرون من زوايا أخرى، وتمييز نقاط التلاقي إما باقتراب إحداهما أو كليهما، أو حتى تغيير زاوية الرؤية نفسها، فيُكسب الحق الذي في صفه رموزًا ما كانت لتكون عونًا له لولا المرونة وتقبل النقد ومعالجته بحسنِ التدبير.
د. خالد احمد عبدالجبار

الأحد، 5 مارس 2017

( حب لا يُوصف )
دخل عليها وهي تتحدث مع إحدى صديقاتها، وتتجاذب معها حديثاً أمتعه سماعه، وبطبيعة الحال، كان يسمع ردودها فقط، وكلها من جمال عشقها له. أرخت هاتفها ونظرت إليه بعينين تملأهما الرضا، فبادرها بفضولٍ، مع من كنت تتحدثين؟
كنت أتحدث مع ريم، كانت تحكي عن جارتها، وكيف أنها تتفنن في عشق زوجها وتخلص في خدمته وتضرب مثلاً بروعة استقبالها له، خاصة عند عودته من سفره، والذي تكرر كثيراً في الآونة الأخيرة، نتيجة توسع تجارته لمدن أخرى يشرف عليها بنفسه، فتودّعه باكية لفراقه، لاهجة بالدعاء له بالتوفيق، ومهيأة نفسها حال عودته بارتداء الجديد الفاتن، وبحفلة تجدد فيها حبها له بأطايب الطعام والشراب وأصابع الشمع الحمراء.
وفي سفرته الاخيرة، اشتد اشتياقها له، رغم حديثها معه باستمرار و متابعته في كل حركاته وسكناته. ومن لوعة الشوق ضاق عليها المنزل، فطلبت من أخيها أن يأخذها للشاطئ، لتروح عن نفسها بعد ذهاب الأطفال للمدرسة، وعند الشاطئ  تذكرت حب زوجها لمطعم اعتاد ان يأخذها اليه، فاقترحت على أخيها أن يأخذها لذات المطعم لعل خيال البارحة يريح حاضر اليوم، وعند وصولهما للمطعم رأت شخصاً يغادره، ممسكاً بيد زوجته الحامل، بعاطفةٍ أعادت لذاكرتها لحظات حملها الأول، وحنو زوجها وتلبيته لطغيان وحمها بدلالٍ قل نضيره، وفجاءةة قال أخوها، انظري أليس هذا زوجك ؟
شعرت برجفة هزت وجدانها، أرادت ان تصرخ، إلا أن الصدمة  ألجمتها وهي ترى زوجها مع أخرى ثم استجمعت قواها و صاحت تناديه، ما إن سمعها حتى أصابه ما أصابها من الصدمة وأخذ يحدق فيها بجزع !
لم تكمل صديقتها القصة إلا بضحك عالٍ وهي تذكر كيف كانت زوجته الحامل تجري خائفة منها إلى السيارة، واستطردت تقول، إنّ الرجال خونة والغدر مذهبهم، وأنا ألوم كل امرأة تفني حياتها لإرضاء زوجها، هنا شعرتْ الزوجة أن كلام صديقتها يرميها بغمز.
فأجابتها بعدما أنهت حديثها، أنا ألوم ذلك الرجل على غدره، فَلَو أنه صارحها قبل زواجه بأخرى لكان أفضل للجميع، وأعتب عليك التعميم فهو آفة التفكير، وأرى أن ما تقوم به أي امرأة محبة من تفاني لزوجها فان ذلك يُشعرها بالراحة قبل زوجها، فهي بذلك تطلب المتعة لذاتها!
تعجبتْ صديقتها من فلسفة خدمة الزوج إسعاداً للنفس، فأنهت المكالمة بوداعها!
- أعجبني منطقك ياعزيزتي.
- ما قلته جانب من الحقيقة فقط يا عزيزي
- لم افهم ، هل لك ان توضحي
- كنت اعلم أنها كانت تقصدني في آخر كلامها، لعلمها بشغفي بك، وحرصي على راحتك، والذي أفعله لراحتك هو سبب سعادتي.
فادعائي الراحة المجردة لنفسي في مثل هذه الحالة يلجم الطرف الأخر، ويجعله متخبطاً بين الاستفسار والاستنكار! أما الحقيقة المطلقة فهي حبي لك بلا شرط وهو غاية سعادتي.

الاثنين، 13 فبراير 2017

كربٌ وبلاء
كان يوماً عادياً كسائرِ الأيام، فيه ما فيه من العمل الممزوج بالرتابة و كثير من دعوات التفائل، لشراءِ وهمٍ بان ما سيأتي اجمل !
تمر الدقائق عجاف، ويكاد ظلُ أحدهم يسبقه ومن تلابيبه يسحبه. 
و بينما الجميعُ يواسي الجميع، ارتجفتْ الأرض من تحت أقدامهم و تهاوى الناس خوفًا مع سماعِ دق الناقوس المعلق في المنارة القديمة، الذي تخيل الجميع أنه ولى بزوال صانعيه من العهد القديم، لكن ما أربكهم فعلاً هو ذلك الصوت الذي علا معه (أن يا أيها الناس اجتمعوا، اجتمعوا، أمرٌ جلل) 
تخاذلت الهمم وارتعدت الفرائص وتعلقت الأبصار حيث الناقوس، وتقاسمت الآذان جمهرة الناس وصدى النفير، لا بد أن نفيق، هكذا قالوا!
فبقية عزم ادخرناه لسائر أيامنا لا مناص من استهلاكه الان. حُشر الناس ضحىً ، واجتمع السحرة من بين الجموع يضحكون و يقتاتون على آلامهم  و الاوجاع. 
وقف الزبانية يدخلون الجموع افواجاً ويميلون بهم نحو المقصلة.
ناقوس و مقصلة! مسكين انت يا شعبي. كان لذيذ يومهم دموع الآخرين فتفننوا باذاهم. 
صاح كبيرهم أنتم هناك، الا تسمعون؟ امتازوا إلى قوائم ثلاث، كلكم مبتور ما هو فيه، وباطل ما كُنتُم تحلمون، كلكم بقايا عشاء أخير، لن نطيل عذاباتكم، هكذا قررنا، و هكذا سيكون. 
فامتازَ الناس إلى ثلاث، بأوامر صِيغت على اكفِ عبوديتهم،  
نَفرٌ سيقضي نحبه بين أيدينا الان، وقوم عند الغروب لتنسج دماءهم مع الشفق كربلاء اخرى على جبين الظالمين، و آخرون مرجون لرحمتنا إما نعذبهم و إما نتوب عليهم، فهم في عذاب قائم، و الله على كل شي شهيد. 
تعالت الأصوات و امتزجت الدموع بالدموع، فكلنا مهدور الكرامة مخلوع الفؤاد. 
و بينما الذبح يمتد لفئة منهم، وانهال الآخرون صمتاً بين أيديهم، اختار احدهم الصعود للناقوس مبادرةً، فهو أيقونة تعذيبهم ورمز بقاء الظالمين.
أسرع آخذاً الاميال خطوات في سعيه، وامتدت يداه للناقوس ووضعه تحت قدمه ثم صدح بالأذان في وقت لا أذان فيه ولا إقامة!
الله اكبر الله اكبر، كانت هذه الكلمات بلسم الحاضرين. شخصت أعينهم للسماء و رددوا الأذان في بكاء ( الله اكبر الله اكبر باصوات تتعالى مع تتالي مقاطع الاذان ) 
أنكم لا تدعون اصماً، نعم لا تدعون أصماً، فقد ازدحمت السماء باصوات الرعد وامتد للناقوس فطمسه و للمقصلة فارداها و للزبانية فأحرقهم، ومعها لمعت عيون الجموع مع فجر وليد أنهى ليالي الظالمين.

السبت، 28 يناير 2017

( بوابة العبور )
يتجاوز بخوفٍ سواترَ ترابية يربض وراءها أصحاب القبعات العسكرية و نقاط تفتيش منتشرة بعشوائية غير مفهومة، و تتوزع نظراته بين خطوات طفل يبيع كل ما هو مشبوه وآخر يقتات على فضلات أيد أنهكتها الحرب، و رجل هناك يتسول واخر يعرض ما لا يمكن شراءه، وامرأة تسير بأبنائها تبحث عن بقايا بين الحطام و اخرى حطمتها الأوجاع، لا تعرف ماذا تريد فضلاً عما يعرف الناس .
أُقفلت المنافذ الحدودية بالمتاريس فبحث الناس عن اخرى اكثر أماناً من القذائف و أشد عرضة لقطاع الطرق
كان واحداً من عشرين مسافراً، يتشاركون ذات المشاعر من حزن على وطن يتلاشى و خوف من مستقبل يتهاوى بين أضلاع المنتفعين من دماء الشهداء، سلكوا الطريق الترابي الأصعب الذي يعلو حجارته نقوش من لغة مندثرة رسمت ممراتٍ لعابري الزمن الغابر الى مجهول الزمن الحالي.
وصلوا الحدود، وهناك وقفوا طوابير على مد البصر مع من سبقوهم و من أتوا بعدهم، حان دوره، نظر المفتش لوثائقه، فقال له انت طبيب و لا يمكن ان تغادر الوطن! فامثالك نحتاجه في المعسكرات لعلاج جرحانا و قبر موتانا.
 وفي لحظات كان هناك جنديان يقوداه الى حيث لا يدري، طلب منهما دخول دورة المياه، وهناك وجد ملاذاً يطلق فيه دموعه كمداً، فتاشيرة عبوره الى وجهة أحلامه لم يبقى على صلاحيتها سوى يومان.
خرج لقيود تسوقه الى ساحات الموت، وجد مرافقيه حانقين من تأخره، إلا أن احدهما كان قد تم تغييره وكان برتبة ملازم، وأثناء سيرهما صرف الضابط الجندي الاخر لمهمة اخرى، وأكملا سيرهما، ثم بدا يحادثه قائلاً، سمعت ما دار بينك وبين المفتش و علمت انك طبيب وتنوي مغادرة البلاد، هل فراراً من الحرب؟ 
أبداً، وانما لإكمال دراسة التخصص، و أعطاه وثائقه ليتفحصها، نظر اليها ثم قال اتبعني، اخذ يشق الجموع ممسكاً بيده، شعر بدف انسانيته يحتوي أحلامه بعد ان قاربت الضياع.
و دخل الى ذات الغرفة التي يقبع بها ذات المفتش الذي نهره وأمر بأخذه، وقام بإعطائه تأشيرة الخروج، ثم أمر بسيارة لتجتاز به الحدود، رد صاحبنا لقد وهبتني الحياة .
لا يهم ان تبقى على قيد الحياة ، فالدنيا ظلٌ زائل، ما يهم هو ان يبقى المرء في التاريخ ما قدم للإنسانية من بذل و عطاء .
عبرَ الحدود ووصل لمحطته الأخيرة، وفي اليوم الأول من التحاقه بالدراسة، وجب عليه أن يقدم نفسه لزملائه بناء على طلب البروفيسور المسؤول، كانت لكنته في بلد المهجر ذات دلالة واضحة على أصوله الأجنبيةفقام احد الطلاب بالاستهزاء من لكنته، فلم يرد، فما كان من البروفسورإلا أن قال بصوت عال؛ من المتوقع ان يكون لزميلكم لكنة في اللغات الخمس التي يجيدها، والمحزن أن نضحك ونحن لا نجيد إلا لغة واحدة وبالكاد، فلم يجرأ أحدٌ أن يستهزأ به بعد ذلك، فكان هذا سبباً في نبوغه و اثبات محامد الانسانية.إن بوابة العبور للتاريخ التي تحدث عنها ذلك الضابط، لم يكن لها حارساً او عابراً كما كان لها هو بعينه في الشرق و هذا البروفيسور في الغرب.

الثلاثاء، 10 يناير 2017

(كانت هنا)
جمع أوراقه و أخذ حقيبته ملتحفاً بالهموم، مطأطئ الرأس ، ليغادر مكتبة الكلية بعد أن قرأ كلماتها الجافة التي أرسلتها عبر الخلويّ، كانت جفاف تلك الكلمات تكفيه ألماً لبقيةِ يومه. وما إن همّ بمغادرة المكتبة, حتى رآها أمام أرفف كتبٍ على مقربةٍ منه، فعاد مسرعاً دون أن تشعر به، أو هكذا خُيل له، عاد لمكان قراءته المعتاد و أخذ يرتب جنباته و ينفض الغبار ماسحاً له بكم قميصه، فربما تأتي و يكون هو المقصود بحضورها .
على الرغم من كونها ابنة خاله و زميلته في نفس الكلية إلا أن خلافات حدثت في الماضي بين أسرتيهما حالت بين وصالهما، فأمها ترفض أن يكون بينهما تواصل يتعدى الزمالة، و أخبرتها أنها لو اكتشفت غير ذلك فإنها ستقوم بنقلها إلى كلية أخرى! فكانت فحوى رسالتها أن ابتعد عني ، ممزوجة بقسوة ِتعبيرٍ ، لتخبره بأن هذا ما يجب أن يكون، فمستقبلها أهم !

عاد أدراجه، و جلس على كرسيه ممسكاً كتاباً لتراه يقرأ، ولو رأته على هذه الحالة فستضحك لأن الكتاب كان مقلوباً بين يديه. انتبه و بسرعة خاطفة فتح شنطته و أخرج حاسوبه، فهذا الوضع المثالي الذي يداري ارتباكه، وبقى أن يرتب هندامه، فشد قميصه وعدل بنطاله و خلع نظارته فهي تحب أن تراه بلا نظارة ! 
لا لا, ضع النظارة على عينيك لتبدو طبيعياً، وبينما هو على هذه الحال, سمع تغريدتها وهي تلقي السلام ، لقد أشرقت شمسه ثانية فهي هنا.
كيف حالك ؟ فأجاب بتمتمة لا يذكر ماذا قال فيها، إلا أنها بادرت بسؤاله عن أحد المراجع على عجل، لتوهمه أن قدومها كان لذلك، كان مسروراً بالبقية الباقية من وصالها، حتى لو كانت على عجل! كان مرتبكاً بقلب يخفق و عين خجولة تسترق النظرات، جلست بعد إلحاحٍ منه فقد استدرجها بعفويته، أخذ يقص عليها حكايات من طفولته و هي تسمع مبتسمة و كانت كلما ابتسمت شعت أساريره من عينيه، و غاص في طفولته، لقد كان يشعر دائماً أنها رفيقة طفولة لم يعيشاها سوياً، وكانت دائماً تقول له مازلت طفلاً لم يكبر ويجيبها بأن شقاوتك أصغر من طفولتي .
مضت دقائق كانت من أسعد اللحظات التي عاشها. فجأة قاطعته لضرورة ذهابها، هز رأسه متفهماً وداخله يصرخ  لا تذهبي، كان لا ينظر لعينيها، فهو يعلم أن لسانه معقود بعينيه .
وقف يودعها وهو ينظر لظلها و يسمع خطاها في داخله، وما إن غادرت حتى غرق المكان بظلمة ليلٍ غاب قمره، و خَر على كرسيه منهكاً متأملاً مكان جلوسها، مسترجعاً ما دار بينهما من حديث، دمعت عيناه و هو يقول كانت هنا منذ قليل.
د. خالد عبدالجبار