الثلاثاء، 25 ديسمبر 2018

(أنسنة الظلال)

لو حدثت مع إشراقة الغد هزة سحرية، لتوقظ كل نفس ذاهلة، فتختفي معها تلك الظلال الفاضحة المجنونة! حديثُ نفسٍ علت نبرته جزعاً حينما رأى أدهم ظلالَ أسد وأفعى وثعلب يسيرون بمحاذاة التل.

تبعهم لعلمه أن هناك أمرًا سيدبر بليل، مضى مبتعدًا عن أي ضوء قد يعكس ظله الإنساني فيفضح وجوده! أخيرًا استرقوا مكانًا يواري سؤتهم التآمرية على بقايا إنسانية الظلال!

رجعت به ذاكرته لتلك الساعة التي تغيرَ معها كل شيء، يوم نادت المرأة في البلدة مستنجدة لانقاذها من الظلم، وعندما خذلها الجميع أنقذها ضوء القمر الذي سال حيًا ليحتوي ضعفها واختفت مع جريانه، ثم أظلم عليهم ليلتهم؛ ليتفرقوا فطنين بأن ما سيأتي سيكون مختلفًا.
في ليلتهم التالية، خلت حياة أخرى تنبض في الظلال، فلم يعد ظل الواحد فيهم انعكاس لضوء القمر على جسده المهترئ بالظلم أو بالسكوت عليه؛ إذ تفاجأ الناس أن الظلال تعكس صور حيوانات، فذلك الوضيع بظل ضبع، والنمام بظل أفعى، وآخر متكبر جلاد بظل أسد، وهكذا دواليك، وأغربهم ذلك المتلون بظلال تتبدل في الموقف الواحد من ظل حيوان لآخر.

لقد أظهرت الظلال ما تخفي الأنفس بما يتماشى مع أمم أمثالها؛ أولئك من قامت على صدورهم قلوب حجرية؛ ارتاع الناس في أول الأمر، إلا أن عموم البلاء خفف الوطأة عليهم، ما عدا بقية ظلال بشرية لنفوس صافية، هؤلاء من اجتمعت لأجلهم في تلك الليلة عصابة التل لإيجاد طريقة لتصفيتهم بعدما عجزوا من استمالة طباعهم.

عرف أدهم من الظلال أصحابها، فكل ظل مرآة لصاحبه، قال صاحب ظل الأسد (سرجس) ماذا نفعل؟ لا بد من قتلهم بطريقة لا تلمس أجسادهم! وخلصوا إلى رأي صاحب ظل الثعلب (جساس) بأن يجربوا ذبح الظلال، وشرح صاحب ظل الأفعى (دحان) طقوس الذبح، والتي ستبدأ بمشاركة بشريّ الظل في ظلم من دونهم بحجة التغيير، وفي لحظات الترنح بين الإنسانية وما دونها، يكون الظل قابلاً للذبح.

وضعت قائمة بأسماء بشريّ الظل، وتم دعوتهم في ليلة اكتمال القمر؛ حضر الجميع ما عدا أدهم الذى توارى عن الأنظار، ولإخفاء نيتهم اختاروا مكانًا إزاء جدار صفري الظل، لكي لا يظهر تلونهم أثناء الحديث؛ تناقشوا حول رغبتهم بالتغيير كي تختفي هذه الظلال، تهللت وجوههم لسماع ذلك، ثم أردف عمار، يبقى لدينا مشكلة لا بد من تجاوزها بموافقة الجميع، وأكمل، نحن أولى نعمة وقد ازداد عدد أصحاب ظل الأرانب والدجاج ممن يأتون إلينا طلبًا للرزق، نريد حفر خندق حول البلدة ووضع بوابات حديدية تمنع دخولهم، أما أولئك الموجودون بيننا فلا بد من مصادرة أقواتهم؛ فإن سكتوا فهنيئًا لهم هواءنا وأرضنا يمشون عليها، وأقواتهم نسترجعها لإنماء بلدتنا! ذلك سيمهد للتغيير الذي أردناه ولنعود كما كنا؛ انقسم بشري الظلال إلى فئتين، أُخذ الذين وافقوا وكانت ظلالهم تتأرجح أمام أعينهم إلى غرفة الذبح، وتم ذلك ففاضت أرواحهم، وتُركوا بحراسة كلبيّ الظلال!

أما أولئك الرافضون فقد قُبض عليهم لتلفق بهم تهمة التآمر على البلدة، كوّن ظلالهم البشرية ثوبٌ يتخفون به لنشر الفتنة.

لم يأبه السكان بكل ما جرى، فالكل تم تدجين ظله أو ثعلبته أو "أكلبته" وغيرها من ظلال الحيوانات، كلٌ بطبعه.

بدأ الجميعُ البحث عن أدهم؛ فهو من تبقى من بشريّ الظل؛ أدهم الذي علِم أن نهاية الموضوع لن يكون إلا بما كانت بدايته؛ عودة المرأة الذي اختفت مع سيل القمر، فاعتزل في كهفٍ مناجيًا ربه أن يكشف الغمة بعودة المرأة.

تحددت ساعةُ العبرة، حين أقيم احتفالٌ لتتويج ظل الأسد زعيمًا للبلدة، وَمَضَ القمرُ بشدة لتظهر المرأة أمامهم؛ وقبل أن ينطقوا، قالت أنا الحقيقة تجلت بعد تعسفكم، رد زعيمهم، أنت خدعة ما كان لها أن تظهر إلا لتُعاقب.
وجه القمر نوره نحو مسرح التتويج ليصبح مسرحًا للمحاكمة، فبدأ يرسم بسيل ضوءه عبر ظلال من يُراد محاكمتهم من بشريّ الظل؛ ليعيد تمثيل الجرائم التي ارتُكبت وآخرها ذبح الظلال، التفت الناس باختلاف ظلالهم لأسدهم المزعوم وزمرته، وارتفعت أصواتهم بالبراءةِ من فعلتهم، وهنا بدأت ظلالهم تعاود بناء إنسانيتها؛ لتنكشف الغمة، وليعلم الناس أن نور الله سلاحٌ يعيد أنسنة الضمائر بعد تحجرها.

الثلاثاء، 13 نوفمبر 2018

( المذيلون )

تتقاطر قوافل المهاجرين لأرض الأحلام، أولئك الحالمون بالكدح الكريم، تاركين وراءهم آباءً سيهرمون وأبناءً سيكبرون وأحوالًا ستتبدل مع سنين غيابهم، لا ضير؛ فهناك أملٌ سيزرعون به ثمارًا يحصدها أبناؤهم حتى لو على أنقاض أرواحهم، التي لا محال ستبلى وتفنى بين طيات الغربة، بوابات محصنة سيعبرونها إلى قاعة الامتثال التي تفصلهم عن ذواتهم الدنيا!
ما إن تطأ القدمان تلك الغرفة حتى يؤمر الرّجل بالنظر للرزنامة البيضاء المعلقة على الحائط، تلك الرزمانة التي يصاحب التاريخ المدون عليها مقولة تُسطر يومياً، وتُتلى عبر الأثير لتحفيز الكادحين على الامتثال والعطاء، فيسمعها الجميع دون استثناء؛ وقبل مغادرتهم لقاعة التفتيش تنهال عليهم بصقات من كلمات التقريع والتوبيخ لتعريفهم بمآلهم، وكأن سوء حظهم من صنع أَيديهِم؛ وأخيرًا يتجرعون عقار الدونية!

عقار يُنبت زائدة فوق موخراتهم، ما تلبث أن تكون ذيلًا بمرور السنين! نعم ذيلٌ؛ لذلك أطلق عليهم السكان الأصليين (المذيلين)، عرف عدنان كغيره أنه تمييز يُخضع القادمين لمراتب تفصلهم عن أسياد الأرض التي قدموا إليها.
ليت السادة يعلمون أن طالبي الرِّزْق ما هم إلا ضحايا ظروف ولدوا فِيهَا، وأن طبيعة الحَيَاة ناقصة لكي يسعى كلٌّ في سبيلِ سد هذا النقص ولا يتوقف؛ كل ذلك كان يدور في مخيلة عدنان حين مد يده لذلك المفتش ليتجرع العقار.
انطلق عدنان بعدها سعيًا في البناء، ومع مرور السنين كان الذيل يطول أكثر، كم كان مؤلمًا أن يتم تمييزه بذيل كباقي الكادحين، لا بأس فالكل يقول إن الذيل يكسب صاحبه قوةً كلما زاد طوله! بدأ الكادحون يتفاخرون على بعضهم بطول ذيولهم، وبدأوا لاحقًا يتراقصون بها، ما كان بالأمس عيبًا أصبح مفخرة بينهم! ظلمٌ يتدرج من أعلى لأسفل، إلا أن الحقيقة التي استخلصها عدنان، أن ما كان نظامٌ متبعًا أصبح إعاقةً تعيق صاحبها عن مكاسرة الأيام في الاسترزاق، ورأى أن من ذابت أعمارهم في غربتهم ثقلت ذيولهم إلى حدٍ انحنت معها ظهورهم من سحبها وأحيانًا يضطر أحدهم لحمل ذيله بيديه اتقاء الأذى أو تجاوز الإعاقة.
أصبحت طرقات المدينة مكتظة بالذيول، وكثرت الحوادث واستغنى أرباب الأعمال عن الأقدمين منهم لقلة ما ينجزون، وعمّ الإحباط الجميع، إذ تكفلت السنون بنشر البطالة والعوز، وأخيرًا سعى عدنان في محاولة تُستبدل بها الذيول بمُثلةٌ دون مثلة، من خلال عقار ينبتُ زائدةً في مكان غير المؤخّرة، عدنان الذي أمضى قرابة العقد في المدينة، "فما أفنينا به أعمارنا حتمًا سيكون له وقع من الجميل في أوامرهم" قالها وهو يطلب من مجموعة مذيلين التوقيع معه على طلب الاسترحام لتغيير المثلة؛ اجتمع النَّاس يوم نقاش الاسترحام وأعينهم ألسنٌ يتحدثون بها فيما بينَهم، وصدر الفرمان بما هو آتٍ، يخضع كل من سولت له نفسه بالارتقاء لقطع ذيله وتركه ينزف حتى الموت، وإن نجّى فتلك فرصة يكفر بها خطأه ويعود ليعمل بذيل أطول، أو يغادر المدينة بعد تجريده من كل حقوقه فيعود صفرًا لقريته، أما عدنان فقد تم القبض عليه، وما أن حدث ذلك، حتى تغيرت صفحة الرزمانة إلى اللون الأصفر في سابقة غريبة حيرت القائمين في قاعة التفتيش ولَم يُعرف لذلك تفسير!


تقرر أن يُحاكم عدنان أمام الناس في الْيَوْمَ التالي دون تأخير ويعدم في ذات الوقت، لدرء الفتنة في مهدها، ولا بد أن يشهد إعدامه كل السكان ومعهم المذيلون وفِي مقدمتهم من وقعوا مَعَه العريضة؛ تزاحم الناس يوم المحاكمة، ودخل القاضي وتلى لائحةَ الاتهام ومفادها التأليب على نّظام الحياة، ثم سأل الحضور ومنهم المذيلين عن الحكم المستحق لأمثاله، فقالوا بصوت واحد: الموت! فصدر الحكم بالإعدام، وأعدِم من  فوره، وهنا سقطت ورقة رزمانة حمراء، وعلا صوت عبر الأثير: (سحقًا لقومٍ أراد لهم الكرامة؛ فأرادوا له الموت) سكتتْ الأصوات؛ فكسر القاضي السكونَ حين قال: مالي ومال عدنان!

الجمعة، 19 أكتوبر 2018

( الانسانية المفقودة)

لم يجدوا للنومِ سبيلاً طوال تلك الليالي التي سبقت مغادرتهم لموطنهم الذي ما عرفوا بديلاً له، موطنٌ غابتْ كل أماني حياتِهم إلا البقاء فيه، لكنه في عرف الضمير المغيب وطنٌ له أهلٌ وهم غرباء.
خرجوا حشوداً وما فتروا يجمعون من تراب الأرض قبلاتٍ على جباههم من كثرة السجود دعاءً يسترقق أحجاراً في صدور من قالوا انهم رعاة الأرض، غادرَوا بعدما تقطعتْ بهم عرى آمالهم، ومن بينهم طفلٌ سحبته أمه وهو ساجدٌ ينوح بدعائه (اللهم ألن حجارةً سكنتْ صدورهم)، فألان الله بدعوته الحِجَارَة!
مضوا بآهات ملأت الشوارع العارية، آهاتٌ من افئدة هيجتْ فيها الاحزانُ عواطفاً طاب لها التأوه ولذّ لولئك الإستماع.
وفي صباح مكتظ بحقائب الألم والدموع، استوقف الجموع صوتٌ مجلجلٌ، وأحاطت بهم فرقُ التفتيش، وصاح منادٍ اسكتوا جمعياً، من الذي أشعل الجدران في البلدة بكتابات الطين؟
لم يفهم أحدٌ ماذا يَقُول؟ أي كتابات، تساءل احدهم؟
فإذا بسوطٍ يجيبُه منكراً لإنكاره، فخرّ على ركبتيه متوجعاً. أيها الجنود ضعوهم في زنزانات جماعية إلى أن نعرفَ الجناة. أما ما كان يقصده المنادي، فهو ظهور كتابات انتدبت الطينَ حبراً لتظهر على جدران البلدة(اتركوا أبناءي، ليأكلوا من خشاشي).
اَي هرطقة تلك؟ من أنت ومن أبناءك؟ 
تزايدَ الغموض وزادتْ النقوشُ ثباتاً لا يمكن محوه، ويوماً بعد يوم بدأتْ تظهر في كل مكان وبعباراتٍ اكثر قساوة ( قاحلةٌ بعدهم، لا زرع ولا ضرع )، (مساكنُهم خاوية وشوارعها عارية ).
ثم بدأت تبرز نتؤات على سطحِ الأرض، كل منها يتِّجه نحو مفترق من طرق البلدة، بعضها منفردٌ وآخرى جماعات ؛ فطغى لغزُ النتؤاتِ على لغزِ الطين والكتابات. 
لم تعدْ الأرضُ صالحةٌ للمشي أو الحرث والبيوت الخاوية سُدت بالجدران وأكوام الطين، وهناك وفي الزنزانات التي اكتظت بالنزلاء بدأ الجميعُ يلحظُ ان خيطاً من نُورٍ دقيقٍ لا يكاد يُبين، يتدلى من كعب القدمِ اليمنى لكلِ واحدٍ منهم ويمضي لما بعد الأفق مخترقاً الجدران، ولا يظهر نوره خاصةً إلا من تلك الأقدام الَتِي تقف في السحر تناجي ربها!
تم الإفراج بعدما تأكدت براءتهم، بل أصبحوا مثلهم في حيرة مما يحدث! فعاودوا المسير، كلٌ باتجاه وطنٍ لا يعرف عنه إلا من حكايات الآباء؛ وكانت الخيوط تزداد قوة فتثاقل عليهم مشيهم، والنتوات تزداد بروزًاً لتصبح كالتلال.
لقد اجذبت الأرضُ وأقفلتْ السماءُ وقبضَ الرعبُ على قلوب من تبقى من سُكانها، أما الليلُ فلم يبقى فيه سوى أصواتُ الريحِ التي تتبعها زمجرةٌ تدك الجدران!
تنبه القومُ بعد وقتٍ أن الطبيعة الجامدة تحركتْ، وحجارةُ الأرضِ لانتْ وآلت أن تنصرَ من ولدوا في أكنافها وتربوا في أوديتها، نعم ثارتْ الأرض بتلك الحياة المختبئة في حجارتها ولزوجة طينتها فانتدبتها لتحذر من شؤمِ ما اقترفوه بأبنائها، وكأنها تقول سأُكفنكم بالحرمان قبل أن تميتوهم بالشتات، وكذلك فعلت أخواتها في الطّبيعة.
هنا تحركتْ الحكمةُ مجبورة في نفوس الظالمين، لتقول أعيدوهم الى مساكنهم، لنرى أحقٌ هو؟
طارت الأصواتُ لتخبر الناس ان عودوا إلينا، فايقظ الخبرُ كلَ صوتٍ منازعٍ أتلفه الظلمُ ليقول الحمد لله، ومع بدء عودتهم خف التثاقلُ الذي سببته الخيوطَ المرتبطة بنتؤاتِ الأرض والتي بدأت بالتقلص كلما اقترب صاحبها لحضن أرضَه.

وبدأت الكتابات بالزوال من على الجدران وتراكمتْ السحب تغطيهم والرياح تهب من خلفهم بحنو يقول هلموا إلى دياركم، وتساقط الهتان فرحاً بعودتهم؛ إنتهت الفاجعةُ وعاد كل شيء كما كان إلا حائط البلدة الكبير الذي يتوسطها، إذ نُقش عليه بالطين( وإن عدتم عدنا)