الجمعة، 29 مارس 2019

( شجرة الخلد )

«رأيت في منامي أني أطير بجناحين، وأني حر بحق، ولم أكن أدرك شيئاً في حلمي أكثر من تتبعي لخيالاتي التي تشعرني بأني حر؛ أما ذاتي المقيدة فلم أعد أدركها، ثم استيقظت فجأة لأجد نفسي منطرحاً على الأرض مقيداً! ولست أعرف الآن هل كنت في ذلك الوقت مقيداً يحلم بأنه حر، أو أنني حر أحلم بأني مقيّد؟، هكذا كتب ياسرٌ حلمه على لوحٍ إعتاد أن يكتبَ عليه أحلامه كي لا ينساها، أو ربما اعتقاداً أن أحلامَ الحريةِ عندما تُكتب تتحقق!   
في ذاتِ الوقت كان يدورُ إجتماعٌ لا يبعد سوى بضع فراسخٍ ، حيث الإمبراطورُ  يتحدث لوزرائه عن المعبد الذي ينوي بناءه(لقد خلقت لأكون عظيماً وسأبقى خالداً، لذا اختاروا أكثر الأماكنِ هدوءً وخلوةً لبناءِ المعبد، واجعلوا له فناءً يضمُ ضريحي بعد وفاتي، ابنوه بالعظام والجماجم، اجعلوا الطين ممزوجاً بدموع النُسّاك وبعرقِ الكادحين، اختاروا الأقوى منهم ولتحتكموا لحلبة المصارعة حتى الموت)
وما إن أكمل حديثه حتى التفتْ إلى خريطةِ إمبراطوريته، فراى تلك البقعة البيضاء التي تكسو هضبة الشجرة المباركة، التي طالما انتظر اليوم الذي سيقطع فيه قدسيتَها، فأردف قائلاً(لتكن صومعة النُسّاك وخلوتهم في معبدي، وليتركوا عنهم باحة الشجرة، احضروهم الساعة، وأرسلوا فرقة تأسر العمال، فدموع أولئك وعرق هؤلاء، تعطي قدسية أزلية لمعبدي)
خرج ياسر مرتوي بحلمه، فكان أول من قُبض عليه؛ لقد وقع ما رأه حلماً بعد تقييده، لكن كيف سيكون روحاً تطير؟ أُخذ مع من أُسر لينتظروا يوم النزال في باحة المعبد.
عُرف ياسر بقوته وتُقرر أن يخوضَ النزالَ الأول مع رجل يماثله قوة، وعلِمَ أن من يرفض النزال سيصارع أسداً! فاختار أن يصارعَ الأسد على أن يقتلَ إنساناً، والكلُ ينظرُ لشجاعتِه التي قتلته مع الأسد.
وفاضتْ روحه وحلقتْ، فادرك أن روحَ الشهيد تخفق بجناحي الحرية فوق رؤوس الطغاة؛ ثم طار متجهاً نحو الشجرة، حيث سيكون عليه ان يُمضي أقدار الله!
نعود للقصر؛ حيث لم يحضرْ العُبّاد، بل أرسلوا من ينوبُ عنهم، فأزبد الإمبراطورُ(كيف لهم ان يتجاهلوا أوامري بضرورة حضورهم جميعاً؟، ثم همس في أُذن وزيره (على الباقي أن ينضمَ إلينا حتى لو تزلفاً كي لا يُدانوا.
فاحت رائحةُ زكيةٌ من جسدِ ياسر وتلطخت أركان المعبد بدمائه التي لا يُعرف كَيْف وصلت لهناك! لتنبعث منها رائحةُ الموتِ التي نفر منها الجميع، حتى الإمبراطور لم يستطعْ دخول معبده؛ ما أعتبره مؤامرة على سلطته، وتذكر في لحظتها تلةَ الشجرة، فطلبَ من وزيرهِ تجهيز جيشٍ يسير به لإخضاع التلة بعُبّادها، وإعلان سلطته من على قمة الشجرة، وتحرك الجيش، وما أن تقدم في التلة حتى أخذتْ الأرواحُ ومعهم روحُ ياسرٍ تحومُ بقوةٍ حول الشجرة، والنُسّاك في الباحة يصلون تضرعاً لله؛ تسلق الإمبراطور لأعلى الشجرة مع وزيره ليقفا على سطح قمتها المستوي، فتجمعتْ الأرواحُ وهبت عليهم كرياح عاتية ليتراجع بطغيانه للوراء ويدوس بقدمه على عباءتِه المسبلة خيلاءً؛ ففقد توازنه ليسقط صريعاً مع وزيره الذي تشبث به.

كانت روحُ ياسرٍ تطيرُ مشرقةً مع أرواحِ الشهداء؛ وسمع مرتادوا باحة الشجرة صوت يخامر آذانهم (إن الطغاةَ بظلمهم يسقطون تباعاً ويبقى الحق حتى وإن هُزم، ويفنى الظالمون بطغيانهم حتى وإن انتصروا؛ أن شجرة الخلد التي اخرجت أبانا من الجنة، هي ذاتها الشجرة التي غُرست بيننا بثمارٍ بذورهُا الدم والعرض والمال؛ وزعها الله بين الخلائق بالعدل، فإن سطى القوي على ثمرة الضعيف، يجد نفسه مطروداً من جنة الطمأنينة إلى صحراء الندم)