الأحد، 27 يناير 2019

(سردام)

"لو أنكم صَمتم قليلًا، لسمعتم في السكينة معاناة نفوسهم ومناجاة قلوبهم المتواصلة، تنظر إليكم من وراء أجفان مغلّفة بدموع مرتعشة، تبحث عمن يجففها بكلمات الرحمة" قالها مالك وهو يرى سيدًا يعاقب أجيرًا عاري الظهر بالسوط؛ لطلبه أجرة شهور مضت ليرسلها لأبنائه، انتفض مالكٌ برحمته، فتلاشت قدمه اليمني أمام الجميع، فسقط فاقدًا توازنه؛ فكيف لرجل بساقٍ واحدةٍ أن يبقى واقفًا بعدما فقد قدمه اليسرى! لقد تراخت به الأيام وأسبلت عليه الأحداثُ مع لفحة شمسهم دوارًا لضميره ورأسه! رأى طيف من يحب تحدثه (حبيبي قم! مازلت قويًا برحمتك وعزيمتك، عد إلينا، يكفيك ما مضى)؛ فنظر إليها مبتسمًا وأخذت تتراجع للوراء من دون أن تعطيه ظهرها إلى أن ذابت مع أكتاف الأفق.

"سردام" بلاد الذهب أو ما كانت تُعرف سابقاً بـ (سرٌ دائم)، تلك التي عزلت نفسها بعدما حطمت ما جاورها من بلدات؛ فجعلت أهلها فقراءً يجدونها مصدر رزقٍ يخفف عن أوطانهم القليل من الفقر والمرض، بُنيت سردام محاطة بأسوار عالية وسقف مغطى بقبة عظيمة لا تُعرف أبعادها، وصيرتْ لنفسها شمسًا أخرى وأفقًا ملفقًا، ثم وضعت لنفسها قوانين كان أغربها، متلازمة الغربة، والذي ينص بأن الغريب له أن يعمل ويمضي لا يلوي على شفقة لمعذب أو شوق لمحب؛ قانون يطلب جلاميد القلوب أن تتشكل؛ ويوم دخوله يُوسم برقم على كتفه ينسى معه اسمه، ثم يهرول مكسورًا، يستعطف الأغنياء ولا يعطف على الفقراء، وإن عايش موقفًا اشتاق فيه لوطنه أو دافع فيه عن ضعيف، ينام ليلته ليفيق صباحًا وقد فقد أذنه أو جُدع أنفُه أو بُترت يده وغيرها من مثلات، ويتدرج الفقدُ لأطرافه ثم حواسه شيئاً فشيئا، حتى يتدارك المطلوب منه بترك المشاعر جانبًا فينخرط ترسًا بين تروس العمل، ملتفتاً لما يصون أعضاءه أو معوضًا لما فقد منها.
متلازمة الغربة، جعلت الغرباء المشوهين سمة تلك البلاد، صورٌ مختلفة تلونت بتلون العواطف المرفوضة في سردام، وكان التلاشي لا يتم إلا في ظلمة الليل، أما مالك فقد تلاشت قدمه اليمنى أمام الناس وفي وضح النهار، ما اُعتبر سابقة شؤم، لذا تُرك في مكانه مُراقباً إلى ان اختفت شمسهم وراء اكتاف الهضاب، ليأخذه الجنود إلى سجنٍ لينظر في أمره مجلس البلدة لاحقاً.
قوانينا تقول، من يأتينا لا يخرج منها إلا نافقاً أو مستدام العاهة مفلساً، قالها رئيس المجلس، ثم أكمل له: منا فضلة رزق يرسلها تكرماً لمن يعول؛ تتلاشى أطرافه وحواسه ان خالف القانون، لكن مالكاً هذا شؤمٌ يجب قتله، بيد أن قطرات دمه ستنجس أرضنا، لذا سيرمى من على الأسوار إلى نهر العذاب، ليلقى مصيره غرقاً أو افتراساً من دببة الوادي، وزمجرت الأبواق ليجتمع الناس وليعلموا عقوبة مالك.
اختار المنجمون يوم رميه ليكون يوم فيضان النهر، متجاهلون أسطورةَ يعلمها أهل سردام، وهي أن التقاء الشمسين والفيضان في سماء سردام علامة النهاية!

كانت الأمطار شديدة وفيضان النهر على وشك الحدوث، فُتحتْ الشرفة المطلة على النهر، وما إن هرع الجنود لرميه، إذ بالغيوم تنقشع فجاءة لتلتقي شمس الحقيقة مع شمسهم الملفقة، وارتفع الفيضان حتى وصل للشرفة في تسارعٍ افقد الجنود القدرة على تفادي ذلك، فغمرت المياه سردام، وبدأ الأهالي بالتلاشي كما كانت أطراف الغرباء تتلاشى، وانهار الجدار، وأكمل الفيضان ابتلاعه البلاد والأهالي من دون الغرباء الذين لم يسعهم سوى مشاهدة الدائرة التي دارت على الظالمين، واختفت البلدة بسكانها وأُورثت الأرض بذهبها لمن أراد الله، أما مالك فقد وصل سالماً مع الفيضان على تلة، وقد عادت أطرافه وحواسه، وأُلقي بجواره الكثير من الذهب الذي حملته المياه خارج سردام، زفر مالكٌ بالحمد كمن فاجأ الكلامُ خرسَ لسانه، واتجه لبلده طائرًا على أجنحة الشوق؛ لتبقى نهاية سردام سرًا دائمًا لمكر الله .