الثلاثاء، 27 ديسمبر 2016

( حلب و عقيدة الصدمة )

في غرف التعذيب يتم استخدام كل أشكال التعذيب و من بينها و أشدها جرماً تسليط الصدمة الكهربائية على أدمغة المعتقلين بهدف تحويل أدمغتهم إلى صفحة بيضاء من خلال محو الذاكرة و ما فيها من المعلومات و السلوكيات المكتسبة و إعادة خلقهم من جديد و هو ما يظهر جلياً من خلال نكوصهم سلوكياً ، فبعض المعتقلين بعض انتهاء الجلسات يبدأون بمص أصابعهم و التبول على أنفسهم وبعضهم يشعر بالفراغ المطلق. 
و هنا تتشابه ما تقوم به الصدمة الكهربائية في غرف التعذيب و ما يقوم به النظام في سوريا من شن حرب بلا هوادة على أهالي حلب، لتضع جميع السكان في حالة من الصدمة الجماعية، فتخدم الطلعات الجوية المكثفة بالقنابل المتساقطة و البراميل المتفجرة والعنف و التطهير الطائفي ، كلها، من أجل الوصول لأهداف متعددة منها تدمير المدينة بشكل تام رغبةً في محوها وإعادتها صفحة بيضاء أي إلى العصر الحجري و من ثم تطويع الأهالي للاستسلام و تهجيرهم و العمل على التغيير الديموغرافي المبني على الطائفية المقيتة .
و يأتي بعد ذلك دور رأسمالية الكوارث و هو المذهب الذي لا دين له في عقيدة الصدمة و ذلك من خلال ما يعرف ب " إعادة الإعمار " عبر شركات تابعة للدول العظمى و على رأسها روسيا و الولايات المتحدة كل بحسب نصيبه من الكعكة و هذا ما يفسر سكوت الضمير العالمي و صمت بوقه الذي ما أنفك يردد عبارات القلق و الاستهجان !
اضف الى ذلك توظيف الشركات الأمنية بعقود خيالية، لتفرض واقعاً جديداً من الوصاية و نهب قوت الشعب و تركيع إرادتهم .
أما بث تفاصيل الحرب بشكل مباشر عبر الـقنوات العالمية وإظهار دمار المدينة و كأنها ضربت بقنبلة نووية، فالغرض منه خلق نموذج توجيهي سلوكي لكل العالم. فالحرب نوع من الاستعراض للقوة العسكرية والتواصل الجماعي لروسيا مع العالم اجمع و رسالة من النظام السوري للمعارضين أن هذا هو مصيركم ان أصررتم على الثورة أو فكر فيه غيركم .
إلا أن هذا الصدم المفرط و الأحلام الرأسمالية المفضوحة ولّد نتيجة غير متوقعة، وهي تعزيز عزيمة الناس على المقاومة، و تجذير معرفتهم لإسباب النصر المتمثّلة بالعودة لحاضنة الدين حتى و ان كُتب عليهم التهجير فلن تُعمر الارض إلا بسواعد ابناءها. 
و بذلك نما و ينمو نمط جديد من إعادة الإعمار وهو "إعادة إعمار الشعب" لتتعطل بذلك آلية الصدم التي جاءت بها مدرسة شيكاجو على يد مؤسسها ميلتون فريدمان  و التي اثبتت التجارب ان وعي الشعوب واستمرار مقاومتها يفقد الصدمة  فعاليتها و يُعيد الأمور إلى نصابها حتى و لو بعد حين .

الأحد، 25 ديسمبر 2016

( لا تعودي )

ما كاد يبرح المقهى حيث اعتاد قراءة أحزانه و سبر ذكرياته، حتى بدأت السماء بوخز الطاف الطبيعة بماء منهمر، لا يكاد يرى كفه من تلاحم قطراته ، و اشتدت بأثقالها كما ذكرياته التي أتعبت كاهله ...
و مضى يجري متجاوزاً أرتال ما جنته جوارحه من احزان،  و استمر يهز بجنباته الى ملاذ يحميه من تراشق السماء لاوداجه، يسقط هنا و يرتمي بين القنوات متعباً هناك ، في وتيرة من العناء لا تنقطع، لان انقطاع سعيه يعني فقدان الطريق.
تنازلت الطرقات في حينها عن كل ما هو حي إلا عنه ، فهو من بين الخليقة وحيداً يترنح في أزقتها ، يزيد الرعد و يضج الكون بصولاته، و ترتعد فرائصه من لميع البرق و انعكاسه على بحيرات الماء المتراكمة بين خطواته ، و يصيح هل من مغيث ؟هل من نور ينبثق من ستار الليل البهيم فيكون فجراً يوصلني للطريق. ؟ 
لكن هيهات فما من مجيب ، إذن لا مخلوق يتهادى به ، فليكن ظلاً او واق يستتر به ، فخففَ من ركضه و أخذ يتباطأ مستنداً على سُوَرٍ لامسه بأنامله دون ان تتيقن عيناه بما أمسك ، تدارك ما بقي من قوته، علها تعينه في تجاور محنته، و بينما هو على هذا الحال من التعب و زمهرير الماء الذي يلفح جلده المتآكل من طول البلل، لمح ظلاً او ربما شبحاً او عله بقايا سراب يتهالك من وطأة زخات المطر المتواصل على الأنحاء ، اقترب منه ، و كان كلما اقترب منه انكمش الظل على نفسه و زاد سكونه، و هو عكس ما المّ به من انقباض و توجس ، و تراءى له كلما اقترب منه، انه يألف عتمة ذلك الظل ، نعم يألفه ، فصاح  نعم أنتِ !
أي دموع تلك التي انهمرت بها السماء من اجلك و أي حال أصبح مآلك ، لقد اختفيتِ زمناً ، حسبتُ ان لا لقاء سيجمعنا و لو كنت اؤمن بالرجعة لقلت أن ( امرأة العزيز ) رجعت في هيئتك بعد أن أتمت توبتها فغوتْ و عادت لمراودتي بعد ان غلّقتْ قلبي إلا لها .
ما أستطيع قوله الأن بعيداً عن الماضي و آلامه، هو ان تتبعيني لاخرجك من طيات هذه الظلمات التي تعلو بعضها بعضاً، و لكن ارجوك ما أن أصل بك الى حيث يرتاح قلبي بأمانك غادري ، نعم غادري، فولوجي في عشقك ثانية كولوج زورق في المحيط العاصف و سيكتظ عقلي بالافكار المتناسلة عن عدمية إنسانيتك مع يُتم غرامي بك، و ربما كانت سهولة مكسري هو غايتك في لقائي ثانية، فارفقي بي ارجوك و غادري ، دعيني لسلامة الروح و سكينة الفؤاد، فقد اعتدت غيابك و لا فسحة لدي للعزاء والسلوان .

(د. خالد عبدالجبار)

الثلاثاء، 29 نوفمبر 2016

( ادمان التكنولوجيا )
قد يستنكر البعض وصف التكنولوجيا بأنها أحد مداخل الإدمان، ويصر بأن التكنولوجيا ما هي إلا أحدى مقومات التطورالعصري، فمع التطور الهائل في وسائل التكنولوجيا، والتطبيقات التي تمتلأ بها اجهزتنا الذكية مع فضاء الانترنت الواسع ، والتي بلا ريب قد وفرت جهدنا و وقتنا في تواصلنا مع الاخرين و إتمام اعمالنا و تسهيل احتياجاتنا في نواحي الحياة المختلفة فأصبح استخدامها جزء لا يتجزأ من دنيانا.
إلا انها مع ذلك كله ، قد تحولت عند البعض الى مشكلة تفرض نفسها بجلاء متمثلة  في سوء استخدامها و في احياناً كثيرة ،  ادمان ينطبق عليه المعايير المرصودة في تشخيص الادمان على المواد الادمانية ، و بالتالي يحتاج الى تقييم وقياس و من ثم وضع الحلول ، اذ ان القاعدة تقول ( انه لا يمكن إدارة شئ لا يمكن قياسه و لا يمكن قياس شي لا يمكن فهمه ) .
ما هو ادمان التكنولوجيا ؟
هو نمط إشكالي و حالة من التعلق النفسي والسلوكي بوسائل التكنولوجيا الحديثة لمستوى لا تستقيم حياة الشخص اليومية بدونها.
و خلصت دراسة امريكية حديثة أن هناك تشابه كبير للغاية بين مدمن الكمبيوتر على سبيل المثال ومدمن الخمر ووجد ان هناك تشابه كبير يصل لحد التطابق بين العمليات التي يقوم بها مخ مدمن الخمر وذاتها التي يقوم بيها مخ مدمن الكمبيوتر ومن ثم فإن مناقشة ملف ادمان التكنولوجيا ليس من سبيل الترف بل مشكلة حقيقية بحاجه لدراسة ومتابعه وعلاج.
وتتفق الكثير من الدراسات على علامات يمكن عن طريقها الاستدلال على ما إذا كان الشخص مدمناً على وسائل التكنواوجيا و الانترنت او لا، و العلامات العشر التالية تتشابه في وجودها مع علامات الادمان على المواد الادمانية المختلفة و عليها يكون القياس وفهم المشكلة  :
١- تزايد أوقات تصفح الإنترنت، فكما في حالات الإدمان على أي مادة، فإن المدمن لا يكتفي بقدر معين ويسعى إلى زيادته بعد تعود جسده عليه. وكذلك مدمن الإنترنت و الوسائل التكنولوجية يسعى دوماً إلى زيادة عدد ساعات تصفحه يومياً كي يكون راضياً.
٢- وجود علامات انسحابية ، مثل العصبية أو الانزعاج أو الحساسية من أي محفز خارجي عندما لا يكون الشخص متصلاً بالإنترنت او جاهزه مقفلاً او لا يمكنه الوصول إليه لأي سببٍ كان.
٣- فقدان السيطرة على النفس، إذ لا يستطيع الشخص السيطرة على بداية ونهاية فترة تصفح الإنترنت و متابعة حساباته في وسائل التواصل الاجتماعية المختلفة.
٤- قلة التفاعل و التواصل الاجتماعي الحقيقي اثناء تواجده مع أسرته او أصدقاءه  .
٥- الآثار الصحية، مثل  قلة النوم والشحوب صباحاً وآلام في العمود الفقري و الرقبة والعينين والأعصاب.
٦- قلة الانتاجية و ما يترتب عليها من مشاكل في مكان العمل أو المدرسة.
٧- استخدام الجوال في مواقف خطرة كاثناء القيادة او السير في الأماكن العامة او عبور الطرق .
٨- رغبة قوية او إلحاح في استخدامها والتعلل بالأسباب ، عبر البحث عن حجج بشكل دائم لإهمال الواجبات المدرسية أو المنزلية من أجل الجلوس أمام الكمبيوتر وتصفح الإنترنت.
٩- هناك رغبة مستمرة أو جهود غير ناجحة لتخفيض أو ضبط استخدامها . 
١٠- انفاق المزيد من الأموال من أجل هدف وحيد هو أن يتحصل على أحدث الصيحات التكنولوجية وأيضا ليؤمن لنفسه استمرار تمتعه باستخدام التكنولوجيا على النحو الذى يرضى طموحه.

علاج ادمان التكنولوجيا:
ان علاج ادمان التكنولوجيا يتطلب الاعتراف بالمشكلة أولاً ثم طلب المساعدة و تقبل ما يتم طرحه من حلول و التسليم بها و اخيراً الإلتزام و الإنضباط الذاتي في تنفيذ خطوات العلاج المطروحة و التي تشمل تحديد المثيرات إلى تؤدي إلى سوء استخدام التكنولوجيا و إدمانها و من ثم العلاج المتمثل في شقيه المعرفي و السلوكي  :- 

١- تحديد المثيرات :- 
- كثرة استخدام التطبيقات التي يغلب عليها طابع الترفية او التواصل الاجتماعي و ما يصحب ذلك من مشاركات غير مقننة و من ثم الرصد و الترقب لعدد التفاعلات و الاعجاب من الأصدقاء و المضافين إليه لما يطرح من موضوعات،  و ما يترتب عليها لاحقاً من مشاعر الغضب لما لا يرضيه او قلق لما ينتظره او السعادة لما يشبع احتياجه النفسي و العاطفي .

- الضغوط الحياتية و جعل المتنفس الوحيد عبر الوسائل التكنولوجية من ألعاب فردية أو ما يشارك فيها الاخرين عبر الانترنت او التشتت بين مواقع التواصل الاجتماعي او المواقع المشبوهة  .

- الفراغ و الملل و هي حجة من لا حجة له للاستمرار في هدر الوقت و التسكع في فضاء الانترنت  .

٢- العلاج المعرفي :-

- القناعة بأن الحياة متسعة و لا يمكن حصرها في هاتف خلوي أو جهاز كمبيوتر.

- مقاومة آفات التفكير التي يستجيب لها الشخص بمشاعره ومن ثم أحاسيسه و التي تودي بدورها للانغماس اكثر في استخدام الوسائل التكنولوجية و منها على سبيل المثال :- 

@ ان الملجأ الوحيد لقتل الفراغ هي هذه الوسائل و لا شي غيرها  @ ان الناس جميعاً يقومون بما اقوم به .

@ لا يمكن الاستغناء عن الانترنت باي حال من الأحوال ، فجهاز الكمبيوتر او الهاتف الخلوي طيلة اليوم بدون الانترنت يصبح عديم الفائدة.

- تثبيت المبادئ لمقاومة التنافر الإدراكي ، فغالباً ما يقوم الانسان بايجاد المبررات التي تجيز له السلوكيات المنافية لمبادئه و قيمه التي تربى عليها، فكلنا يعلم ان احدى المشكلات التي يعاني منها أفراد مجتمعنا حالياً هي الادمان على بعض المواقع المشبوهة او المحرمة و هي ما تفاقم من مشكلة الادمان على الوسائل التكنولوجية.

٣- العلاج السلوكي :-

- وضع جدول يومي و لمدة اسبوع ، مدون فيه الاولويات و الانشطة التي يجب إتمامها خلال اليوم الواحد يبداً من صلاة الفجر الى وقت النوم مساءً.

- حذف التطبيقات الغير ضرورية و الألعاب التي تهدر الوقت.

- تعلم المهارات الحياتية التي تساعد على التغلب على الضغوط و إيجاد البدائل النافعة لها.

 - البحث عن تحديات تدحر الفراغ و تقتل الملل وذلك بايجاد أهداف و احلام مستقبلية يعمل على تحقيقها، لترقى به في سلم الحياة ، و تودي للإشباع الناضج و النمو النفسي، و هو خلاف المتعة و التشبع المؤقت الذي يصاحب سوء الاستخدام لوسائل التكنولوجيا او إدمانها.

-  استخدام تقنية  Time in - Time out لإتمام الاعمال التي تتطلب ذهناً صافياً أو سرعة الإنجاز و المتمثّلة بما يلي :-

@ عند وجود عمل ما يحتاج اتمامه اقل من ساعة يقفل الانترنت و احياناً الجوال اذا لم يترتب على اقفاله عواقب سيئة .

@ عند وجود عمل ما يحتاج اتمامه اكثر من ساعة يقفل الانترنت و احياناً الجوال لمدة ٥٠ دقيقة ثم يفتح الانترنت و لمدة ٢٠ دقائق لمتابعة اموره الهامة مثل الإيميلات او ردود على رسائل  قام بإرسالها و يترتب عليها جلب منفعة او درء مفسدة ثم يقفل الانترنت ثانية كما سبق شرحه و بنفس الطريقة الى ان ينهي مهامه .

- تحديد عدد مرات الدخول لوسائل التواصل الاجتماعي الى مرتين يومياً و لمدة لا تتجاوز النص ساعة في كل مرة متجاوزاً إغراءات التأرجح بينها.

 - مراجعة الخطة التي قام بتنفيذها للتغلب على مشكلة سوء الاستخدام لوسائل التكنولوجيا او إدمانها و معرفة جوانب القصور و تداركها و تجديد الالتزام بها و الانضباط الذاتي لإدائها و الذي يعرف ( بانه القدرة على القيام بالشئ الذي يجب ان يفعله في الوقت الذي يجب ان بفعله و بالطريقة الصحيحة سواء أعجبه ذلك او لم يعجبه )  

-  تطوير العلاقات الاجتماعية والعائلية حتى تكون خير عون في التخلص الناجح من ادمان التكنولوجيا.

- المشاركة في المبادرات التطوعية المجتمعية و كذلك تبني مبادرة شخصية لخدمة المجتمع و لزرع مبادئ إنسانية و قيم اخلاقية تعزز ما تربى عليه الفرد و تكون بمردود نفسي و عاطفي يرضى احتياجاته .

- الاستمرار و الثبات اليومي في تنفيذ الخطة العلاجية و لمدة لا تقل عن شهر كفيلة باْذن الله في تجاوز هذه المشكلة و اكتساب عادات إيجابية بديلة . 

د. خالد احمد عبدالجبار 

طبيب نفسي و أخصائي علاج معرفي سلوكي 

( مستشار نفسي في جمعية وياك )

الجمعة، 28 أكتوبر 2016

( في أمان الله يا حبيبتي )
كطفل تأبط كتابه ليلحق بأستاذه، وجلاً من سؤالِه لما تأخرت ، فيدلف إليه من وراءه، و آونة يأتيه من جانبه خوفاً من مواجهته، يقصرُ همهُ على إرضائه، و يكدُ ذهنهُ في إحداثِ شاغلٍ يلهيه عنه موقتاً، إلى أن يستجمعَ قواه، و يربطَ فؤاده برباطةٍ جأشٍ تعينه على تخطي معضلة اللقاء .
ذاك حاله عندما يغيب عنها فيزداد شوقاً لها ، فراقٌ باختاره ، لكن بدون موافقة منها ، فتبحثُ عنه بغضبِها ، ثم يتحين فرصة ليقطع ضجيج مأخذها عليه ، و يستدرجُ عطفها لتسمعَ انينَ كلماتِ وداعه الجديد.

هي أمي من أثقلتُ عليها بكثرةِ الترحال و طول الغربة و تفطير الفؤاد بالبعد و الأسفار ، هي أمي التي ما شبعت مني و لا شبعت منها، هي أمي التي ما ارتوتْ من يوم اشتدَ عودي إلا من ينابيع الفراق بلسان يلهج بحمد الله على ألمِ الوداع .     

التقينا لاحقاً على مائدة بَارَكْت يداها كل ما فيها ، إلا أني أطرقتُ وجوماً أبحثُ فيه عن كلماتِ عزاء لسفري القريب ، و الذي سيكون بعد يومين .... قلت أمي ، قالت لبى قلبك ..
هنا ازددتُ خرساً و إطراقاً 
فقالت :- بني أني لأسمع نواحَ صمتك حينما يقترب رحيلك، و ازداد يقيناً بساعته ، مع طأطأةِ رأسك و تأتأة كلماتك و رقرقة عينيك كلما رأيتني.
لكن لا عليك بني ، سأصبر و اتصابر و ستعود يوماً لألقاك و لن تغادرني . 
و مضتْ اليومان و جاءت ساعةُ الرحيل ، و قالت و هي تودعني :- 
إياك يا بني أن تكونَ ذلك المغامر الطامع او ذلك القانع الرابض
فان أعطتك المغامرةُ كشفاً ، كان الطمعُ سبباً في ضياعِه 
و ان أعطتك القناعة ُ ذهباً ، ذهب السكون بفائدتِه 
و اعرف وجهتك يا بني ، فمن لا يعرف الى أين يتجه ، تصل به خطواته إلى ما لا يجب أن يكون !

د. خالد احمد عبدالجبار 

الاثنين، 10 أكتوبر 2016

( الأسباب النفسية التي تدفع بالأفراد إلى ترويج الشائعات او تلقيها )

هناك مقولة تقول أن الإشاعة يؤلفها الحاقد وينشرها الأحمق ويصدقها الغبي . وتُعد الشائعة المغرضة من أخطر أدوات الحرب النفسية، وهي تستمد أهميتها كوسيلة من وسائل الحرب النفسية، من الاعتقاد السائد دائمًا بأن الشائعة لها نصيب من الصحة .
والهدف الأساسي من الشائعة هو هدف شخصي، نفعي وآني، بهدف:
١- وضع الطرف الاخر  في حالة نفسية متدنية.
٢- التأثير على نمط العلاقات بين الناس وتعكير الأجواء كبيئة العمل إلى درجة مخيفة.


 أن الخطورة مع استمرار تداول شائعة لمدة من الزمن ان تصبح هي الحقيقة بعينها، تحت مسمى ( اكذب اكذب حتى يصدقك الناس )، حتى في غياب الدليل، وفي الغالب تكون في هذه الحالة بدافع الانتقام أو الحسد أو الكسب المادي للشخص أو الأشخاص الذين يروجونها، لذلك أجمع علماء النفس أن الإشاعة هي إحدى الأسلحة الهجومية التي تتمتع بها الشخصية البشرية. وهناك من يرى أنها وسيلة هجومية دفاعية ، وتختلف شدتها وتأثيرها باختلاف الطبع و والذكاء والإبداع.

و يرى الباحثون بانه لا يمكن عزل الشائعات عن شخصية مروجها ومتلقيها، وعن سمات الشخصية في جانبها النفسي والاجتماعي.
لذلك عند مواجهتنا لهذه الظاهرة  وانتشارها، لا يمكن التغاضي عن دراسة السمات الشخصية ودورها في قبول الشائعات والتعامل معها أو رفضها.

و قد اشارت كثير من الدراسات أن هناك ارتباط وثيق بين مروج الشائعة و اضطراب الشخصية الذي يطلق عليه الشخصية المضادة للمجتمع ( سيكوباثي ) و هو شخص يثير البلبلة لإلحاق الضرر بمن حوله عن عمد.
والسيكوباثية تصيب الجانب الخلقي في الشخصية، دون أن تصيب القدارت العقلية ، وبعض سمات السيكوباثي و التي تتسبب في ترويج الشائعات نذكر منها التالي :-
-  الاندفاع و العدوانية
-  يتصف بالقسوة و لا يردعه العقاب
-  لا يشعر بالوفاء والولاء لأي فرد أو جماعة
-  لديه قدرة فائقة على تبرير سلوكه ليبدو مقبولاً ومعقولاً.
 -  ويتمتع بأنانية مفرطة، وطموح لا توقفه القيم والعقبات والصداقات
- لا يحترم أي عاطفة، و قد يصبح متبلد المشاعر و لا يبالي بآلام الآخرين
-  و قد يبدو عليه ايضاً الصدق والأمانة لذلك يمكن أن يخدع الآخرين .
-  ولا يشعر بالقلق ازاء ذلك ، بل يشعر بالراحة والاسترخاء.
- ليس لديه شعور بالمسؤولية، بل لا يتحمل المسؤولية.
- لا يشعر بالخجل أو العار في المواقف المخجلة.
- لا يقول الصدق، ولا يكترث لو اكتشف أمر كذبه.
- لا يتمتع بضمير حي في الغالب و يفتقد للشعور بتأنيب الضمير

و من علماء النفس من يرى ان مروج الشائعات ذو شخصية انبساطية ،  مما يجعله في حالة جوع مستمر للاستثارة، و هذا ما يجده من خلال ترويج الشائعات . الا ان الامر لا يخلو من وجود اضطراب في الشخصية يساعد على اختلاق الشائعات و ترويجها.

اما متلقي الشائعات فيتميز بضعف الثقة بالنفس، و بشخصية سلبية و قلقة ، و معتمد على الآخرين،  الأمر الذي ينعكس سلباً على توافقه النفسي والاجتماعي والمهني.
و يتصف ايضاً بمسايرة للآخرين و المسايرة في تعريفها عملية نفسية يجاري فيها الفرد أقرانه و أصدقاءه خوفاً من أن يصبح منبوذًا وحيداً. و من السهولة بمكان أن يؤثر فيه الأصدقاء و الأقران و الآخرون من حوله و هو بذلك يخضع لضغوط الجماعة و يتصف بالفضول والتصديق والميل إلى التجريب، فالإشاعة قد تحقق له الشعور باللذة و الثقة الزائفة بالنفس .

 في حين يرى فريق آخر أن الإنسان تشكله البيئة، لأنه أبن بيئته ومجتمعه، وهذا يعني أثر البيئة المادية والاجتماعية على سلوك الفرد من خلال دور الأسرة والمدرسة والمجتمع، و تفاعل ذلك كله مع ما يحمله من جينات وخصائص .

السبت، 3 سبتمبر 2016

(لعنة المعطف) 
تحكي قصةُ المعطفِ التي كتبَها جوجول، عن رجلٍ قليلُ الحيلة ، ضعيفُ الشخصية، خاملُ الذكر،  يدعى أكاكي أكاكيفتش، يعيش وحيداً في بطرسبورغ إلا من صحبةِ امرأةٍ مسنةٍ ترعاه ، يشاطرُها منزلَها، مقابلَ مبلغٍ زهيدٍ يدفعُه شهرياً، يعملُ في وظيفةٍ لا يجيدُ فيها سوى النّسخَ و النسخَ فقط ، حتى حين يعود لمنزله فانه يقوم بنسخِ ما احضره معه من مكتبه، فان لم يجد، قام بعملِ نسخة لنفسِه، لا لشئ و إنما لشغفه بما لا يحسّن غيره و هو النسخ ، ثم يرتاد مضجعه متخيلاً عدد ما سيقوم بنسخه في يومه التالي ، ولو أُوكلتْ له وظيفةٌ أخرى غير النسخ لما استطاع القيام بها.
 كان يتعرضُ لسخريةٍ من زملائِه في العمل دائماً، فهو في هيئته الرثة ، و قصر قامته و ذمامة ملامحه، منبوذاً يعيش بمعزل عن العامة، و لا يختلط بزملائه إلا بما تسمح به العادات المكتبية من تواصل، و تكون  في أغلبها تدنيس لهدوئه و سلميته. فهو لا يملك في دنياه من البشرِ أي صديق و لا من الأشياء سوى معطفاً واحداً مهترى ، كأن الزمان قد أسدلَ عليه بؤسه، و مع تعاقب السنين ، تمزق قماشُه و اهترءتْ بطانته، فكان يقومُ بترقيعه كلما تمزق من قطعة اخرى من نفس المعطف ، و لكن من مكان أقل وضوحاً لمن يراه ، و في يوم ٍ كان لا بد له أن يأتي ، أصبح المعطف غير قابل للترقيع ، فقد تمزق بطريقة لا يمكن اصلاحه ، و إقناع الخياط لترقيعه كمحاولة اخيرة أصبحت بلا جدوى، فلجأ لشراءِ معطفٍ جديدٍ ثمينٍ بالنسبة لفقير مثله. 
تغيرت حياةُ أكاكي أكاكيفتش بعد شراءهِ لذلك المعطف، فأصبح اكثرَ حيوية و ثقة في مظهره و حضوره، فأراد زملاءه الإحتفالَ به و بمعطفه الجديد، فدعوه إلى حفلةٍ استمرتْ الى وقتٍ متأخر من الليل، وعندما عاد إلى بيته حدث ما لم يكن بالحسبان، فلقد سُرق معطفه تحت التهديد، فتغير كل شيء ثانية ، فأصبح ذلك المعطف أيقونة عذابٍ ساقه إلى الموتِ كمداً و حزناً ، فعندما حاول طلبَ العون من الشرطة للبحث عن اللصوص و استرجاع المعطف، نصحوه بان يتحدث لشخص ذو وجاهة ، يستطيع بإتصال بسيط ان يحلَ له معضلته، و أن يجدَ له معطفَه ، فذهبَ من فوره إلى  مكتب ذلك الرجل الوجيه  ، و الذي كان بمعيّة أحد الأعيان ، فما أن عرضَ عليه مصيبته و انه لجأ اليه ليساعده في استرداد معطفه ، حتى بدأ في إهانته و ازدرائه امام ذلك الرجل، فوقف أكاكي أكاكيفتش خائفاً صامتاً لا يرد ،  في مشهدٍ تسلّط فيه الغرورُ و الكبرُ و انعدمت فيه الانسانيةُ ، فدمرَ حياة أكاكي أكاكيفتش و حلمه في عودة المعطف ، فعاد لبيته مقهوراً و أصيب بالحمى من ليلته ، ثم لم يلبث سوى يومان و مات .
وخلت بطرسبورغ من أكاكي أكاكيفتش، و كأنما لم يكن موجوداً فيها أبداً . اختفى وغاب ذلك المخلوقُ الذي لم يكن له من يحميه والذي لم يكن عزيزاً على أحد ولم يملك من دنياه إلا ذلك المعطف .
لكنها لم تكن النهاية ، و إنما البداية و هي العبرة ، فروحُ اكاكي فتش كانت لعنةٌ على أَهْلِ  مدينته ، و على ذلك الوجيه الذي كان سبباً في موته ، فقد عادت روحُه مرتدية ثوب الموت و شحوب القبر، تحوم في بطرسبورغ ، تريدُ الإنتقام ، و لكن بطريقتها و بما أوجعها ، فَجَزَاء الجميع من جنسِ سبب موته ، تعريهم من معاطفِهم عبر طقوسٍ مرعبة مهينة، عاشها أكاكي أكاكيفتش  عندما سُرق معطفه و حين أهانه ذلك المتعجرف ، فجعلت روحه تحوم في بطرسبورغ ليلاً ، تبحث عن المعاطف و تسلبها، و كان آخرُ ما سلبته، هو معطف ذلك الرجل المتعجرف، ثم اختفت إلى الأبد ~ 
كم من أناس سخروا من أحلام غيرهم ، و في أطيب احوالهم منعوهم حقهم في حيازتها ، و في أشبعها هتك إنسانيتهم و التمادي في حد الحيوانية بإذلالهم ، ليبقى كلٌ في رتبته ، فَلَو أن الحوذي أرادَ يوماً أن يستحثَ نفسَه بدلَ أن يستحثَ حماره على المسير، لانتفض الحمارُ قبل أن يعترضَ سادةُ الحوذي، تلك شريعة إبقاء الرتب و الطبقات بين أجناس البشر .
إنّ خيبةَ رجاء من يرجوك في ذاتها مؤلمة، حتى لو كانت بصمت منك ، ناهيك عمن يتبع الخيبة بأذى، فتملأ رُوحه من الوهن كما يملأ الإناء من الماء فيغرق فيه و يموت، كما مات أكاكي أكاكيفتش.
ان أرواح الضعفاء تظلُ لعنةً علي الجور و قساة القُلُوب الى الأَبَد!! 

د. خالد أحمد عبدالجبار 

الخميس، 18 أغسطس 2016

( ملاذ الحكمة )
كلٌ منا مرهونٌ في رأسه، و ما هو إلا نتاج أفكاره، فإما أن تحيا به حياً بين الأموات، أو تقبره ميتاً بين الأحياء.
و الحكيم الثرى في فضائله، هو من يرى من مصائب الحياة و أزماتها، معملاً للتجربة و اختبار للأشياء، فهو يسيرُ على صراطٍ من شيمه ، فان تعللتُ روحه يأساً، استدرك واثباً واثقاً بتقدير الله، كما لو أنها وثبة من الموت الى الحياة ، فما ضجره إلا إرهاصة لحظية، ما تلبث ان تستغفر ذنبها، فيعود موقناً بنصر الله، حتى لو كان ظاهرُ أمره خسارة أو هزيمة .
فالحكيمُ  لا يضجر و لا يتأفف و لا ييأس، و إنما يصبر و يتحلم و يتأمل ، فقد اسلمته ماضي الايام لالتوأتها، و هفوات تقلباتها، فخلقتْ منه فيلسوفاً لنفسِه ، حكيماً لغيره، يرى بنورِ البصيرة ما لا يراه قليلُ الحيلةِ بسيطُ المراس، و استنبطتْ له معناً آخر للمصيبة، فيراها كرحم المحار الذي يستنبت اللؤلؤ من رملٍ مُزدرى، فأصبح عالمِاً بأحوال الدنيا، و التي لا تستقيم أبداً على حال ، فهو بذلك لا يشاطر الأحمق خوفه من الموت،  فتحرمه لذة الحياة، او يشابه المفتون حرصه على الدنيا فتنسيه حقيقة زوالها و قصر وجودها، فجعل المصيبة مؤطرة في تعريف يقيه شر الوقوع فيها، فيراها وكأنها ولدت برأسين فإما بلاء لم يَصْبر عليه، فخذلته الحيلة في الانفكاك منها، أو سعادة حُرم اللذة منها.
فهو ما أنفكَ يدرسُ مادةَ الحياة، التي بوُبت فصولُها بعلمِ الأحداث والتجريب ، فلا يدع لجحرٍ ان يلدغَه مرتين ، فينهمك مثابراً في تعلُمِ مادتِها، بلغة رصينة، كلماتها نحتٌ عن تجارب العمر ، وتفسير تأويلاتها الإيمان بقضاء الله و قدره المحكم .
و البطولة في نظره، ليست حكاية تُكتبُ بالمداد أو تُسطرُ كلاماتَها الأقلام ، و إنما الشجاعة في اجّل معانيها، رحمة يُسعف بها على نوائب الدهر، و تدحر طمعَ النفس ، و حبَها لحيازةِ كل موجود حتى لو كان الطمعُ نفسَه، فهو يتعلمُ العلومَ ليستنقذَ بها الملهوفَ، و يغيث بها الغرقى من بحورِ الشجون .

 د. خالد احمد عبدالجبار 

الأحد، 26 يونيو 2016

(الامراض النفسية و رخصة الافطار)

يملك الناس في العموم معرفة محدودة بالامراض النفسية ، لذلك ما إن يروا شخصاً بالغاً يُفطر في رمضان حتى يتسابقون بالقفز بالأحكام و ينتابهم الاشمئزار من إفطاره ، و إذا قيل لهم بأنه مريض نفسي و له رخصة الافطار ، نتيجة وضعه الصحي و ما يتناوله من أدوية ،  فإنهم و بجهل منهم قد يستنكرون ذلك ، و ربما نصحوا المريض بأنه لو صام لربما كان ذلك سبباً في شفائه ، كون الاعتقاد الراسخ عند عامة الناس، يوثق الصِّلة بين ضعف الإيمان و قلة الوازع الديني و حدوث الأمراض النفسية، إلا أن حقيقة الأمر تكمن فيّ أن هناك أسباب مختلفة وراء ظهور الأمراض النفسية و تفاقمها ومنْهَا الوراثية والاجتماعية و العقلية و العضوية،  أو ربما مصاحبة للامراض العضوية في حالات مختلفة ، و قد تكون أشد وطأةً من المرض العضوي في أحيان كثيرة ، لذلك يجب على الإنسان ألا يتحدّث إلا عن علم ومعرفة ، فبعض النصائح ممن يجهلون الأمراض أياَ كانت هذه الأمراض قد تقود إلى التهلكة ، ناهيك عن المرض النفسي ووطأته . و بذلك يقع المريض بين مطرقة المرض النفسي و معاناته و سندان الوصمة و جهل المجتمع، فيصبح ضحية المشقة و خطورة الإتيان بالصيام والتي قد تكون كارثية، في حين أن أعلى مقاصد الإسلام و سماحته، تتمثل جلية في حفظ النفس ، كواحدة من الضرورات الخمس في التشريع الإسلامي ، وهي حفظ "الدين، النفس، العقل، المال، والنسل". لذلك رخص الله تعالى للمريض الإفطار
في رمضان تخفيفاً و رحمة به و جعل الإتيان بهذه الرخصة من أسباب محبته لعبده كما قال رسول الله صلي الله عليه وسلم :
 ( إن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه) .

وهنا تكمن الحاجة إلى تضافر الجهود، من قبل الجهات ذات الاختصاص ، و المقدمة للخدمات الصحية النفسية، سواء كانت حكومية أو خاصة ، أو جمعيات مجتمعية خيرية متخصصة، لوضع برامج استثنائية ،تسبق المواسم الدينية ، و تتواكب مع أيامها ، و تمس الاحتياج الفعلي للمرضى النفسيين ، بحيثيات مدروسة ، تراعي التزامه، و نيته و حرجه من طرح أسئلة مرتبطة بمرضه و برخصة الإفطار، فيتردد في مُناقشة هذا الموضوع، و هنا يتوجب  على الطبيب المعالج مناقشة مريضه من خلال التركيز على الضرورة الطبية و سماحة الإسلام في هذا السياق ، و التي بدورها ستساعد على تهدئة شعوره الطبيعي بالذنب و الذي قد ينتج من إفطاره و بالتالي ستعزز العلاقة العلاجية بينهما.

فالحقيقة التي يعلمها الأطباء و الباحثون هي وجود مخاوف سريرية لبعض الامراض النفسية التي قد تنجم عن الصيام ، نتيجة عدم تناول كميات كافية من الماء،  و خاصة مع تناول بعض الأدوية مثل الليثيوم، و الذي يُستخدم كمُثبت للمزاج، للمرضى الذين يعانون من اضطراب ثنائي القطب،  لأن الجفاف الذي يسببه الليثيوم  قد يسفر عن مشاكل في الجهاز البولي تصل إلى الفشل الكلوي الحاد و خاصة لكبار السن و مرضى السكر .
و ايضاً انخفاض الترشيح الكلوي لليثيوم ، قد يزيد من مستوى هذا العلاج في الدم ، و قد يكون ضاراً على الجسم، و نخص  بالذكر هنا الغدة الدرقية ،حيث يُحدث اضطراباً في عمل الغدة الدرقية ، مما يُسبّب نقصاُ في إفراز مادة الثيروكسين، وهي مادة ضرورية لعملية الأيض في الجسم.
و في إحدى الدراسات الحديثة، تم تسجيل نسبة عالية من الانتكاسة، لاضطراب ثنائي القطب وصلت ل (45٪)،  وظهرت الانتكاسة ك نوبات هوس أو اكتئاب ، خلال شهر رمضان، على الرغم من مستويات الليثيوم المستقرة.

و لذلك أدرجت بعض المقترحات و التي من الممكن العمل بها للوصول بالخدمات النفسية لمستوى يزيل العبثية و التشتت و يوحد الجهود لتخفيف معاناة مرضانا و ذلك بمشاركة الجهات الحكومية و الخاصة أو الجمعيات المجتمعية الخيريّة :-
١- تنظيم ندوات و محاضرات وورش عمل تجمع المرضى و ذويهم  بفريق معالج متعدد التخصصات يتم ترشيحه من ادارة المستشفى بناءا على معرفة مسبقة بالحالات (تقييماً و خطةً) مكون من استشاري طب نفسي- أخصائي نفسي- أخصائي اجتماعي بمعيّة مفتي ترشحه وزارة الأوقاف ليستمع للاستفسارات ورأي الفريق المعالج و من ثم يجيب على التساؤلات المطروحة بما يراه مناسباً .
٢- استضافة المختصين في وسائل الاعلام المرئية و المسموعة و المقروءة  لتناول خصوصية رمضان و الامراض النفسية .

٣- تقديم برنامج إذاعي خلال شهر رمضان الكريم  يجمع استشاري طب نفسي و مفتي من وزارة الأوقاف لمناقشة الاضطرابات النفسية و رخصة الافطار، بناءً على ما يتم عرضه من سيناريوهات تحاكي واقع المرضى او تساؤلاتهم،  و خلال الحلقة يتم استقبال مكالمات على الهواء من المستمعين و يتم الإجابة عليها برأي طبي و ديني متبوعة بالنصائح و التوجيهات
٤- تأليف فقرات تمثيلية قصيرة ، لبعض الأمراض النفسية الشديدة، لتعرض في الفواصل الإعلانية و تتكرر في أوقات مختلفة خلال أيام رمضان و لياليه، توضح للمرضى كيفية طلب المساعدة ، واُخرى توضح مبادرة الطبيب أو مقدم الخدمة في تقديم النصح و الإرشاد للمرضى ضمن إطار هدفه توثيق العلاقة العلاجية بين جميع الأطراف .
٥ - تأليف مقاطع تمثيلية أخرى، تستهدف أفراد المجتمع ، تسعى اتخفيف ضغط المجتمع ، و تقليل وصمة العار، والتروي في إصدار الأحكام والقفز للنتائج ، في حال مشاهدة من يفطر من البالغين في نهار رمضان  .
٦- الانطلاق بحملة قبل رمضان و خلال أيامه المباركة تهدف لنشر الوعي حول سماحة الاسلام و ترفع الضغط المجتمعي عن المرضى لأخذ رخصة الافطار التي تصدق الله بها على عباده.
٧- تمكين أكبر للجمعيات الموجودة مثل جمعية وياك ( جمعية أصدقاء الصحة النفسية) و التي تعمل بجهد ملحوظ و أنشطة متنوعة و تقوم بدور مجتمعي مميز لمتلقي الخدمة و لمقدميها من الاخصائيين و الممارسين على كافة الاصعدة .
٨- تشجيع تأسيس جمعيات مجتمعية خيرية متخصصة للتعريف باضطرابات نفسية بالاسم مثل ( الفصام، الاضطراب ثنائي القطب .. الخ) أسوة بجمعيات أخرى ناجحة تخدم اضطرابات نفسية مثل التوحد ، لتعمل على برامج مستديمة ، و أخرى استثنائية موسمية ، كخصوصية الشهر الكريم و الامراض النفسية ، و تقوم بعمل عضويات لطلبة الكليات الطبية و الصحية و أطباء الامتياز و المقيمين تحت إشراف نخبة من الاستشاريين و الاخصائيين و كذلك لجهات و أفراد من شرائح مختلفة في المجتمع و هنا سيتم توزيع المسوؤلية المجتمعية على الجميع و سيكون إثراءً للخدمات الصحية التثقيفية و العمل ضمن مفهوم الوقاية خير من العلاج  .
٩- تأليف الكتب و طباعة المطويات المتعلقة بخصوصية رمضان و الامراض النفسية ، مرفق معها الفتاوى المتعلقة برخصة الافطار، رداً على استفسارات يتم جمعها لتلامس الواقع و الاحتياج .
١٠- تأسيس و تكثيف خطوط الخدمة النفسية الساخنة (الطارئة).
للإجابة على الاستفسارات المتوقعة،  قبل و أثناء مواسم العبادات المختلفة و من ضمنها شهر رمضان المبارك .

و ختاماً، يبقى أن نقول أن المسؤولية المجتمعية واجب على كل مؤسسة و كل فرد قادر و مستطيع لإكمال الحلقات الخدمية التي تقدم للمجتمع ضمن إطار تحكمه استراتيجيات واضحة ترقى بالخدمات الطبية المقدمة .

الثلاثاء، 14 يونيو 2016

(رمضان و الأمراض النفسية)

عندما يأتي شهر رمضان المبارك ، تكثر الأسئلة حول تناول الأدوية في هذا الشهر الكريم ، و من بينها الأدوية النفسية ، حيث يواجه المصابون بالأمراض النفسية المزمنة ، بعض المشكلات خلال شهر رمضان ،  فتتولد لديهم و لذويهم استفسارات حول تناول أدويتهم،  و النصائح و الإرشادات التي تساعد على استقرار حالتهم، مع ظروف الصيام و اختلاف أوقات النوم والاستيقاظ و مواعيد الأكل ، لذلك سوف نوضح هنا، ما يمكن تكييفه من الأدوية، و نذكر بعض التعليمات المتناسبة، مع التغيرات الزمنية في شهر رمضان المبارك، حتى يتمكن المريض من الصيام، بما لا يتعارض مع أخذ الأدوية، و بما يضمن دوام الاستقرار لحالته .
إن من أكثر الأدوية الشائع أستخدامها بين المرضى النفسيين هي الأدوية المضادة للاكتئاب، و كما هو معلوم فان هذه الأدوية تستخدم لعلاج حالات مختلفة، نذكر منها على سبيل المثال، لا الحصر، الاكتئاب و القلق و الوسواس القهري  و الرهاب  .
فإن كانت هذه الأدوية تؤخذ مساءً خلال الأيام العادية، فانها لا تصلُح أن تؤخذ في مساء رمضان مبكراً ، لأن مثل هذه الأدوية قد تُسبّب النعُاس  في بداية المساء و قد تقلل من ردود أفعال المريض ، وهذا أمر قد لا يكون مُستحباً بالنسبة للمريض ، في شهر رمضان ،كونها قد تتعارض مع عمله او صلاته او مشاركاته الاجتماعية او حتى قيادته للسيارة ، لذلك يجب أن يُؤَخَّر أخذ هذه الأدوية التي تُسبّب النُعاس إلى وقتٍ متأخر أي بعد السحور و قبل صلاة الفجر، و هناك ايضاً، أدوية مضادة للاكتئاب ،تُنشّط المريض ،لذلك يجب أخذها بعد الفطور مباشرةَ، حتى لا تقود إلى الأرق و تُحدث أضطراباً في النوم.
و هذا الحال ينطبق على البعض من هذه الأدوية، والتي تسبب جفاف في الحلق وهذا يؤدي إلى صعوبة في الصيام بسبب الجفاف الشديد الذي تسببه ، لذلك يفضّل اخذها بعد الإفطار أو أستبدالها بأخرى بحسب ما يراه الطبيب المعالج .
اما بالنسبة للادوية التي يتم تناولها مرتين يومياً ، فتكون الجرعة الأولى عند الإفطار ، والثانية عند السحور ، بشرط مراعاة الآثار  الجانبية ، التي قد تؤثر على أداء المريض ،خلال يومه و ليلته، أو أستبدالها بأدوية طويلة المفعول (24 ساعة )

و عندما نتحدث عن الأمراض النفسية الشديدة ، مثل حالات  الذهان و الفصام و الاضطراب الوجداني ، وأخرى غيرها ، فإنها تحتاج لرعاية أسرية مكثفة، لمتابعة المريض في اخذه الدواء بانتظام، و كذلك مرافقته لمراجعة العيادة لتجديد العلاج، و عمل الفحوصات الدورية، كما هو الحال مع مثبتات المزاج ،و ايضاً لمراجعة الخطة العلاجية للمريض ، و خضوعه للجلسات الفردية او الجماعية  في زياراته المنتظمة . و التي يحتاجها لتعلم المهارات التي تساعده في التخفيف من وطأة المرض و مواجهة  ضغوط الحياة  و تحسين جودة حياتهم.
فهنا يتوجب على المرضى و ذويهم أخذ الحيطة و الحذر لضمان استقرار حالته النفسية و استمرار تعافيه، وذلك بزيارة الطبيب قبل رمضان او في بداية أيامه  ، للتشاور معه و أخذ التعليمات المناسبة في تناول الأدوية خلال ايام رمضان المبارك و التي قد تستبدل بإبر طويلة المفعول تاخذ كل اسبوعين او أربعة أسابيع، او ربما حلول اخرى ،تتناسب مع حالة المريض ،و رغبته في الصيام ، و ايضاً أخذ الامر مأخذ الجد، فيما يخص إعطاء الإهتمام المطلوب لمرضاهم، و استغلال رمضان بروحانيته، و اجتماعاته الاسرية ،في دمج المريض مع من حوله، بما يتناسب مع قدرته و دافعيته لذلك.
 لقد اثبتت بعض الدراسات، الذي تناولت هذا الموضوع ،ارتفاع حالات الانتكاسة ،في بعض هذه الأمراض ،و نذكر هنا تحديداً دراسة مغربية (قادري ٢٠٠٠) و التي اجريت على بعض مرضى الذهان الدوري حيث اثبتت ان  ٥٠٪ ممن خضعوا لهذه الدارسة انتكسوا في رمضان ، و البقية زاد عندهم الأرق و القلق، و يعتقد الباحثون أن سبب ذلك، قد يكون التغير المفاجئ ،في نظام النوم و الاستيقاظ و مواعيد الأكل.
إلا أن ما يضيف بعداً آخر لتفسير سبب الانتكاسة لحالات نفسية كثيرة، هو انشغال أسر المرضى في رمضان (في الزيارات و المشاركات الاجتماعية او استقبال الضيوف و اداء العبادات المختلفة من صلاة و اداء عمرة او اعتكاف ) عن متابعة مرضاهم في أخذهم لأدويتهم، كما كانوا معتادين قبل رمضان، او عدم التأكد من وفرة الأدوية لديهم ،و أحياناً أخرى إغفال موعد المتابعة لعيادة الأمراض النفسية، لتجديد العلاج او التشاور مع الطبيب المعالج فيما يخص تناول الأدوية في رمضان ، و لا ننسى جهل بعض الأُسر بطبيعة الأمراض النفسية مثل الفصام ،فيجبرون مرضاهم على الصيام و الصلاة و الاختلاط بالناس و استقبالهم، و هؤلاء المرضى  يجدون صعوبة في اداء العبادات و كذلك عدم قدرة الكثير منهم التخلي عن عاداته مثل التدخين و شرب المنبهات.
و بعض الأسر على العكس من ذلك يخرجون في مناسبات اجتماعية تاركين مراضهم وحيدين في المنزل لأسباب مختلفة مما يزيد في عزلتهم.
و مما يؤلم اكثر حدوث حالات يرغب فيها أهل المريض إدخاله المستشفي ، ليرتاحوا من عناء رعايته في هذا الشهر ،خاصة لو تزامن ذلك مع اجازة بعضهم ، ممن أراد حزم امتعته للسفر، فيقوم بادخال المريض المستشفى ، باعراض اقل ما يقال عنها أنها مبالغٌ فيها أو ملفقة.
لذلك فان التثقيف الاسري و المجتمعي، بطبيعة الأمراض النفسية، و خصوصية رمضان مع المرضى النفسيين ، حاجة ملحة لجعل رمضان فرصة، لدمج هؤلاء المرضى مع اسرهم و مجتمعهم المحيط، بأساليب علاجية، يمكن تقنينها و تقديمها ،ضمن خطة استثنائية، تخدم المريض و تعزز علاقته بأسرته، خلال ايام هذا الشهر الكريِّم.
و ختاماً نذكر بإن من أزكى الأعمال، و أحبها عند الله تعالى ، وأعلاها شرفاً، وأكرمها مروءة ، الإحسانَ إلى المريض و مرافقته والقيامَ على رعايته والعناية به، فهنيئاً لمن وفقه الله تعالى لذلك ، فبذل وقته وجهده ،و احتسب الاجر و عظيم الثواب، من رب الله و السموات .
د . خالد احمد عبدالجبار

الجمعة، 3 يونيو 2016

رمضان يرتقي بالأرواح
ياتي رمضان للمسلمين بما يحمله من خصوصية معاني ، تتأرجح بين صور في الذاكرة و اخرى مُنتظرة ، تجمع الفرد بما يأمل من نفحاته و ما يرجوه من فرص تغييرٍ يراها مؤاتية في طياته ، فهو بعقله الجمعي كمسلم يسعى لتحقيق الإيجابية بما تحمل أيامه و لياليه من عادات وتقاليد وعبادات.
إن الآثار الإيجابية لرمضان تتوالى تباعاً على المسلم بتسلسل يتوافق مع نموذج المحاور الستة المكونة لحياة الانسان
 ( روحاني- اخلاقي - اجتماعي - نفسي - عقلي - جسدي ) فمن المعلوم جزماً تأثير رمضان الكريم على الارتقاء الروحاني الذي يتجاوز مرحلة الإمتناع المجرد عن المأكل و المشرب و ظهور اثر ذلك على علاقته بغيره عائلياً و اجتماعياً من خلال ما يبديه من تسامح و عفو و فضائل اخلاق و بذل و سخاء يرتجي بها حسن الثواب و تمام الاجر ، و هو ما ينعكس بأبعاده النفسيه عليه من طمأنينة و انشراح و سعادة ظاهرة على محياه ، فيرفع من كفاءة وظائفه العقلية من خلال اعادة التوازن بين النواقل العصبية المختلفة و منظومة الغدد في جسمه،  و هذا يتوافق ضمناً مع ما نصت عليه منظمة الصحة العالمية في تعريفها لمفهوم الصحة النفسية المتمثلة في رفاهية الفرد و طمأنينته الناتجة من توازن المكونات الستة لحياته، و التي تساعده  على إدراك إمكانياته والتعامل مع ضغوط الحياة العادية و القدرة على الإنتاج ومساعدة المجتمع.
كما ان الإنشغال بالعبادات من صلاة تراويح وقيام ليل، يزيد من حركة الجسم و ليونته ويزيل عنه الخمول ، ويدعم  صورة الجسد الإيجابية , وقد جاء ذلك في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم حول  قيام الليل فقال: عليكم بقيام الليل فانه دأب الصالحين قبلكم و قربة إلى الله عز و جل و منهاة عن الإثم و تكفيراً للسيئات و مطردة للداء من الجسد)
و أما فيما يتصل بالدوائر الخمسة  المكونة للمدرسة المعرفية السلوكية و التي تشكل العادات و الطبائع ، و المتضمنة في ترتيبها( المثير و المعرفة والمشاعر و الإحساس الجسدي و اخيراً السلوك ) فرمضان تطبيق عملي لهذه النظرية .
إذ ان البرمجة المعرفية في تفسير المثيرات و العيش مع الأحداث  تحدد الكثير من استجابتنا العاطفية فينعكس بدوره على انفعالاتنا و سلوكياتنا.
إن الصوم يمنح المسلم فرصة تدريب عظيمة على التحكم في المدخلات والمثيرات العصبية مع القدرة على البرمجة المعرفية السليمة لها و بالتالي  ضبط المشاعر الناتجة عنها و خفض المؤثر الحسي ومنعه من مراكز الانفعال بالمخ، مما يفضي الى سلوكيات محمودة، بالإضافة إلى أن الالتزام الذي يعقده المسلم مع نفسه بإظهار النية و تلفظها ، مصحوبة ً بالضبط الذاتي معرفياً ونفسياً وسلوكياً ، هي ما تنشده كثير من طرق العلاج النفسي.
فمن يرى أن الجانب الروحي هو الهدف الرئيسي  في العلاقة مع رمضان، فان ذلك يزيد في إيمانه وتهذيب سلوكه ، فينجح في السيطرة على شهواته وتجديد علاقاته، و يتفوق مبادراً في برمجة  يومه و نومه واستيقاظه ، فيصبح رمضان شهر تجديد وتغيير و اكتساب عادات  إيجابية .
أما إذا حدد الشخص هدفه معرفياً، بالتركيز على المأكل والمشرب وطقوس الولائم، مؤكداً معنى الحديث ( بأنه ليس لنا من الدنيا إلا مأكلنا ومشربنا وما أبلينا) و يمارس العبادة كشكل ، وليس كمحتوى يرتقي بها وصولاً لمرضاة الله، فانه بذلك يحصد نتائج سلبية تفقده فرصة السمو و نيل الرضوان  ، فيُظهر التأفف والعصبية والعدوانية فى تعامله مع الآخرين و كأنه يُحمّل الناس جميلةَ صيامه ومعروفَ صلاته و قيامه  .
د. خالد احمد عبدالجبار

الأربعاء، 25 مايو 2016

بقلمي
(دور المثقف)
إن المثقف في حقيقته ، ليس ممن  يمارس نشاطاً ذهنياً او ابداعاً فكرياً بمفهوم المتفرج الملتزم فقط . بل يعمل متفانياً و باذلاً بما لديه من طاقة للقيام بما يتوجب عليه فعله موازياً لذلك روحاً تغمرها حب الخير و ذهناً متقداً يلمح الحقيقة و يدرج في تهاليزها ، محللاً للأوضاع وطارحاً لمقترحات و حلول لها بعد انساني، فيكون بذلك صوتاً للحقيقة و مدافعاً عن القيم الخالدة لمعانيها المتمثّلة في الرحمة والامانة و العدل ، باعتبارها وجوهاً للقيم الكونيّة .
فهو ان صح القول ، ليس صوتا للكذب وبوقاً يهتف بالمجد الملفق المثبت قطعاً بالمقالات المزخرفة او مجرّد عضو  لاندية ثقافية مغلقة، منزوي في  برج عاجي بعيداً عن المشاركة في تغيير واقعاً يُنظّر له في حين انه يمكنه ان يضيف اليه ، او منغلق على ذاته المؤطر بتصنيف يخضع للعرق و الجنس او الدين.
و تأكيداً منه على ضرورة ذلك، كان لا بد له ان ينخرط بفاعليّة في التغيير الإيجابي في بيئته المحيطة ، ليس فقط عن طريق إبداع أفكار او وضع آراء بلغة محنّطة لا تخضع لقانوني الواقع و الفن الممكن بل وكذلك - وهو الأهم - عن طريق المشاركة النوعية بطرح مجموعة متماسكة من الإجابات على المآزق المحيرة التي تواجه سير الحياة و ما يمكن أن يساعد فعلاً في خدمة مجتمعه بما يتماهى مع ماهية تميزه و ثقافته  .

هكذا يتبدى له و لكل ذي عقل راجح، أنه لا معنى لمن يدعي المثل وهو فاقد للمبادرة في وضع الحلول أو متخاذلاً في اداء الدور المنوط به و أقل منها ضرراً، اتخاذه موقف المحايد الطالب لأمن عيشه بعيداً عن المواقف المشرِّفة ، لفائدة الأفراد فيغدو مدجّنا لا قيمة لآدميته .

د. خالد عبدالجبار
( حدودك تحررك )
حين ترسم لنفسك حدوداً ناضجة و آمنة بمزيج من مواقف التواصل البنّاء و المعتقدات الإيجابية و المشاعر المتزنة ، فانك بذلك تسعى لتحرير ذاتك من الضغوط و الإحباطات و تحدد للأشخاص الآخرين كيفية التعامل معك و تضبط ردات فعلك تجاههم فتحفظ الحقوق لجميع الأطراف .
 إن الإنسان منا هو صاحب القرار في ممارسة حقوقه المنصوصة شرعاً و عرفاً و قانوناً و عليه أن يحافظ على كيانه و قيمه دون أن يضطره ذلك لخلق العداوات او التعدي على الاخرين بداعي حفظ الحقوق لنفسه .
و ان يكون حازماً بمفهوم أساليب التواصل الناضجة و التي تعرّف الحزم بكونه لا يعني قطعاً العدائية . والسلوك الحازم ليس عدوانياً ولا توبيخياً ولا تهديدياً  ولا تهكمياً . فهو بذلك يختلف عن العدوانية ، فنحن بالدفاع عن أنفسنا وإثبات وجودنا و حقوقنا لا نعتدي على حقوق الآخرين . و الحزم يعني أن تتواصل و توصل ما تريد قوله إلى الآخرين بطريقة واضحة ، مع احترام حقوقك ومشاعرك متوازية مع احترام حقوق الآخرين ومشاعرهم . فهو بذلك تعبير صادق وينم عن احترام الذات الإيجابي و رؤيتها بصورة أفضل . 

ان وضوح المعاني الحقيقية و المهارات المعرفية و السلوكية المطلوبة و طريقة اكتسابها للوصول لمعنى الحزم الآنف ذكره عبر محاور ترى أن الانسان بكيانه و استقلاله يوازي كيان دولة و استقلالها، فلقد أوجدنا الله بحدود تشمل محاور حياتنا المختلفة و منها و ليس تقليلاً من الأخريات ، الحدود النفسية و جعل لهذه النفس هوية تحددها و خلق لها دفاعات نفسية بنوعيها الصحية  و المرضية و هذه بالأخص من تقوم بدورها عن طريق العقل اللاواعى بإنكار الحقيقة أو تغيرها أو التلاعب بها من أجل حماية الشخص من الشعور بالقلق او التوتر الناتج عن الافكار الغير مقبولة، و بالتالي حمايته من التهديد، فيحافظ على صورته الذاتية و لكن بمنطق اللاوعي و بعيداً عن ممارسة التواصل البناء مع الاخرين.

و حتى هذه الدفاعات النفسية نستطيع بمجمل مهارات مختلفة تغيير واقعها لتصبح في نطاق الوعي و تحويلها الى اليات نفسية صحية و ناضجة نتحكم بها و نضيفها الى هويتنا و نقوي بها حدودنا .

ان تثقيف الفرد بمعالم حدوده و حدود الاخرين و بطريقة تعبيره المثلى عن أفكاره و مشاعره و احتياجاته و كذلك توضيح مراسم تكوين الهوية و الدفاع عنها بالدفاعات النفسية الناضجة للتعامل مع الضغوط الحياتية و مع منتهكي الحقوق، بمهارات ملموسة تضمن كفل الحقوق له و لغيره حتى في حال غيابهم بمنظور المكسب للجميع، لهي من اهم أهداف البناء النفسي السليم .

د. خالد عبدالجبار