(قصة قصيرة بقلمي)
ذهبت كعادتي في نهاية الأسبوع لزيارة صديقي بائع الكتب العم قاسم في مكتبته العتيقة القابعة في إحدى أزقة البلد القديمة من مدينة جدة ... ذلك المكان الذي لا يتذوق جمال لونه.....و لا يشم بهاء عبقه إلا من تربى في حواريه و كبر و ترعرع في نواحيه.

ما إن وصلت إلى هناك و ألقيت السلام على الموجودين حتى بادرني العم قاسم كعادته بالترحاب و إذن لي بالدخول بكرم و بشاشة ألفتها في محياه منذ نعومة أضافري.
دخلت الى المكتبة ....،
فوجدت شاب عشريني يظهر على ملامحه آثار التدين و الوقار، وظهر من بحثه بين مئات الكتب المتراصة سمة طلاب العلم ، و ما إن رد علي السلام حتى سألته عن صحته
فرد على بلغة عربية فصحى ، فيها القليل من لكنة العجم فسألته عن بلده لأني تصورت للوهلة الأولى أنه من أصول شامية ...
فرد علي انه من أفغانستان !
فسألته عن سكناه و معيشته بأسئلة متتابعة تنم عن فضول واضح ...
أجابني انه من مواليد المدينة المنورة ، و أنه حالياً يسكن في جدة ، عاملاً و طالباً للعلم و المعرفة بين المشايخ ، و أنه جاء ليشتري كتباً بوصية من شيخه الذي يصحبه اليوم لشراء هذه الكتب من مكتبة العم قاسم...
أعطى الكتب التي اختارها للعم قاسم ليدفع قيمتها ، فأخبره العم قاسم أنها مراجع و أن أسعارها مرتفعة قليلاً ، إلا أنه هنأه على حسن اختياره .
أخذ العم قاسم الكتب و بدأ بتدوين أسعارها في ورقة جانبية:-
منهج التفسير ....للشيخ محمد عبده
الفرق بين الفِرق ... لعبد الرحمن الغزالي
الفية الحديث.... للإمام السيوطي
مقامات الحريري
أدب الإملاء و الإستملاء
و كتب أخرى في التراث و الادب
و أثناء ذلك و بينما أنا أتصفح وجهيهما بدهشة بالغة، إذ برجل ممتلأ الجسم قصير القامة بملامح بنغالية و آثار التنبل الأحمر يصبغ فيه و شفتيه.... يخرج من بين أكوام الكتب ، و كأنه رجلٌ قد ضل طريقه ووقف يسألنا لهدايته ، و دار في خاطري ماذا لدى هذا ليعلم ذلك الشاب ؟
جلس بعد أن قدم نفسه باسم الشيخ أمان ، طالباً كأساً من الشاي من العم قاسم ....
ثم سألني عن مهنتي فقلت له طبيب .
فرد علي ضاحكاً :-
طبيبٌ يداوي الناس وهو عليلُ
بلغة فصحى تعتريها أيضاً لكنة أعجمية
تبسمتُ من جملته فلقد أصابني في مقتل ، ثم أخذنا نتجاذب أطراف الحديث .
بدأ بالتاريخ ثم عرج على ثقافات الشعوب مروراً بكتب الأدب
و أقوال الفقهاء في مناسبات مختلفة.
تنقل بي.. بين أشعار المتنبي و الشافعي مستشهداً بأبيات لهما و لغيرهما في مواطن متعددة...
ثم وقف ملياً عند مقامات الحريري بعد أن شد انتباهه إخراج العم قاسم للكتاب من بين الكتب بحجة أن الكتاب به بعض الأخطاء المطبعية و سعره عال لا يناسب طلبة العلم، أخذ الشيخ كتاب المقامات و قام بتصفحه على عجالة شارحاً لي بعض وقفاته ، ثم أدهشني حين قال :-  لا أرى فيه أي خطأ و إن طباعته متميزة و لم ارى مثل جودته و دقة طباعته من قبل ....
ثم قرر ان يأخذ الكتاب لنفسه و ليحضر العم قاسم نسخة أخرى ...اقل سعراً  لتناسب تلميذه
تبسم العم قاسم قائلاً :- صدقت ....صدقت
فهي طبعة عالية الجودة إلا أن سعرها العالي بالنسبة لتلميذه محمود هو ما دعاه لقول ذلك ...منعاً لجرح مشاعره .
ضحكنا و تعجبت انا من ثلاثتهم .
فالعم قاسم ذلك الرجل البسيط الذي لا يحمل من الشهادات المكتوبة في عرف زماننا حتى الإبتدائية.... إلا أن ما يحمله في قلبه من طيبة و دماثة خلق ، و ما يحويه عقله من العلوم و المعرفة تتخطى حملة الشهادات العليا .
أما بالنسبة للشيخ البنغالي فدهشتي كانت و مازالت تسيطر على تفكيري فقد أخذني مشدوهاً بين بحور المعرفة و عاد بي في دقائق كانت كالدهر..
تذكرت في وقتها قول الشاعر:.

تَرى الرَجُلَ النَحيفَ فَتَزدَريهِ
ًوَفي أَثوابِهِ أَسَدٌ مُزيرُ

و ثالثهم ذلك الفتى الأفغاني الذي كان يجلس على الأرض و هو ينظر لشيخه بأدبِ طالب العلم ...مبتسماً بوقارٍ زاد إعجابي و سؤالي....
و قلت في نفسي لو كان كل شبابنا مثل هذا الشاب ...
ماذا سيكون حال أمتنا بين الأمم.
د / خالد عبد الجبار