الاثنين، 28 يونيو 2021

فرصة ثانية

(إدجار آلان بو)، شاعِرٌ وقصصي أمريكي بائس، ولد في بوسطن عام 1809 م، لأبوين يعملان في التمثيل، وبعد اختفاء أبيه ووفاة أمه وهو فيالثالثة من عمره، كفله قريب له يدعى جون ألان، الذي أثار دهشته امتلاك إدجار موهبة شعريَّة فذَّة - قراءة وكتابةوهو في الخامسةِ منعُمْرهِ، على الرغم من السواد الذي لف وعيه، ولاحظ أحد أساتذته ذلك التفوّق فهتف ذات مرة قائلاً:- "هذا الولد خُلق شاعراً"، وفي سن الثالثة عشرة كان غزير الإنتاج، غير أن موهبته كانت على المحك لمحاولة إثباطها من قِبَل جون آلان، الذي فضَّل أن يتبعه في التجارة عوضاً عن صنعة الأدب، فاستجاب لضغوطه بيد أنه أثناء عمله كان يكتب قصائد على ظهر بعض الأوراق التجارية؛ وعندما التحق إدجار بجامعة فيرجينيا عام 1826م تفوق في سنته الأولى، ومع ذلك لم يحصل على أموال كافية من جون لتغطية تكاليف دراسته، فمارس القمار لتغطية تلك التكاليف، ليغرق في الديون والخمور بسببها، وفي سن السابعة والعشرين تزوج بنت عمه التي أصيبت بالسل ولم يستطع تدبر نفقاتعلاجها لتموت بعد خمسة أعوام من زواجهما، ولتنتهي بوفاتها فترة السعادة الوحيدة التي عاشها، ويختار بعدها العزلة والإفراط في الشراب ويبدأ في تعاطي الافيون، وبذلك وصفه أحد المؤرخين بقوله "كان يجلس في غرفة معتمة مع غراب على بابه، وزجاجة على طاولته، وأنبوبمليء بالأفيون"؛ وبتلك الكيفية كتب قصيدته ذائعة الصيت "الغرابنتاج خليط موهبته الأدبية وآثار تعاطي الخمر والمخدرات!، فكل مادة إدمانية لها متلازمة أعراض إنسمامية عند الإفراط في تعاطيها أو انسحابية مريعة حال التوقف عنها، على صورة هلاوس بصرية وسمعية وحسية أخرى، وتقلبات مزاجية غير اعتيادية، امتزجت جميعها ليبدأ كتابة القصص الخيالية المرعبة، ويصبح بذلك الأب المُؤسِّس لِمَا عُرِفَ «أَدب الرُّعب» التي حَفلَتْ بالفظائعِ والمخاوفِ المعبرة عن معاناته مع التعاطي وحياته السوداوية خاصة بعد وفاة زوجته، ما أكسبه سمعة سيئة في مجتمع القرن التاسع عشر المحافظ، فذهبوا إلى حد القول بأنه "لا يجب أن يُترك الجمهور مع رجل مثله، غير مستقر عقلياً، يخربشخطوطاً يراها شعراً، وأوهاماً يسوقها قصصاً مرعبة"، وقبل موته بسنتين انغمس في إدمانه أكثر لتتحطم حياته ويموت فقيرًا مَدِينًا مدمناً عنأربعين عامًا.

إنّ الناظر لمسيرة ادجار يراه وكأنه خاض غمار بحر لجي طيلة حياته  البائسة، على قارب بمجداف موهبته فقط، وعلى متنه غدا وحيداً بعدما غادره كل مرافــــقيه تخلياً أو فقداً، فغيـاب القوة الروحانية - المجداف الآخرنقله من سعة الدنيا إلى ضيق الإدمان وعالمه، تلك القوة المضادة للمادية الجوفاء التي يتشدق بها رعاتها ممن تملصوا من أي مرجعية دينية وأخلاقية؛ لذا فالروحانية الايمانية والمادية ككفتي ميزان كلمارجحت واحدة طاشت الأخرىفنجد من تبنى التخلي عن ثوابت الدين وتلاعب بمقاصد النصوص وانتهج فكراً ملتوياً لفهم الموروث، يرى أن منفعة الخمر المذكورة في قوله تعالى "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسمثبتة علمياً بزعم أن تناول كمية قليلة منالكحول يومياً يقي القلب من الأمراض، وصرحوا بذلك في المحافل العلمية واكتضت بها المراجع الأكاديمية، حتى ظهرت نتائج دارسة أجريت على مستوى واسع لتفنّد هذا الاعتقاد، ونشرتها مجلة لانسيت العلمية لتؤكد أنه لا يوجد بين المشروبات الكحولية ما هو آمن للاستهلاك الآدمي.


إنّ من أهملوا مصباح الهدى حتى نفذ زيته وتآكلت فتيلته في ضمائرهم عاشوا حياة بائسة بخسارتهم لقوتهم المعنوية، -التي ما عدنا نملك غيرها بعد اندثار قوتنا الريادية الصلبة-، وحذوا حذو المدنية الغربية بقلة الصبر وترجيح العاجل على الآجل، واتخاذ طرائق المخدرات للهروب من الأزمات أو لمتعة عابرة.


وكم من "ادجاريعيش بيننا، يجمع بين مواهب متنوعة وقلة وعي بقيمنا، فيتبختر بكأس يحمله طرباً أو مخدر يتناوله لداعي الأُنس أو طلب اليقظة، ثم يهيج فتراه مصفراً، ثم يغدو حطاماً كونه وقع بين شري المطرقة والسندان، "إن تعاطى المخدر تسمم وإن امتنع عنه جنّ وتألم"، لذا فالطامح في الاتقاء من شرورها يحصن نفسه بالغايات والقيم النبيلة، وإن أراد الانفكاك منها، ينبغي له بجانب الاستطباب اللجوء لله لمداواة النفس والروح؛ ونذكر ختاماً "جون هيوستن" -الكاتب والممثل والمخرج الاميركي الأوسكاري الذي كان سكيراً سفيهاًفي آخر أيامه كان يمشي على ضفاف المحيط وهو يفكر كيف يمكنه الحصول على فرصة ثانية من (ذلك الذي في العلاولم يحصل عليها؛ بالنسبة لنا، الفرصةالثانية مواربة لا مشقة فيها إلا بمغالبة النفس والتغلب على أهوائها.