الثلاثاء، 13 نوفمبر 2018

( المذيلون )

تتقاطر قوافل المهاجرين لأرض الأحلام، أولئك الحالمون بالكدح الكريم، تاركين وراءهم آباءً سيهرمون وأبناءً سيكبرون وأحوالًا ستتبدل مع سنين غيابهم، لا ضير؛ فهناك أملٌ سيزرعون به ثمارًا يحصدها أبناؤهم حتى لو على أنقاض أرواحهم، التي لا محال ستبلى وتفنى بين طيات الغربة، بوابات محصنة سيعبرونها إلى قاعة الامتثال التي تفصلهم عن ذواتهم الدنيا!
ما إن تطأ القدمان تلك الغرفة حتى يؤمر الرّجل بالنظر للرزنامة البيضاء المعلقة على الحائط، تلك الرزمانة التي يصاحب التاريخ المدون عليها مقولة تُسطر يومياً، وتُتلى عبر الأثير لتحفيز الكادحين على الامتثال والعطاء، فيسمعها الجميع دون استثناء؛ وقبل مغادرتهم لقاعة التفتيش تنهال عليهم بصقات من كلمات التقريع والتوبيخ لتعريفهم بمآلهم، وكأن سوء حظهم من صنع أَيديهِم؛ وأخيرًا يتجرعون عقار الدونية!

عقار يُنبت زائدة فوق موخراتهم، ما تلبث أن تكون ذيلًا بمرور السنين! نعم ذيلٌ؛ لذلك أطلق عليهم السكان الأصليين (المذيلين)، عرف عدنان كغيره أنه تمييز يُخضع القادمين لمراتب تفصلهم عن أسياد الأرض التي قدموا إليها.
ليت السادة يعلمون أن طالبي الرِّزْق ما هم إلا ضحايا ظروف ولدوا فِيهَا، وأن طبيعة الحَيَاة ناقصة لكي يسعى كلٌّ في سبيلِ سد هذا النقص ولا يتوقف؛ كل ذلك كان يدور في مخيلة عدنان حين مد يده لذلك المفتش ليتجرع العقار.
انطلق عدنان بعدها سعيًا في البناء، ومع مرور السنين كان الذيل يطول أكثر، كم كان مؤلمًا أن يتم تمييزه بذيل كباقي الكادحين، لا بأس فالكل يقول إن الذيل يكسب صاحبه قوةً كلما زاد طوله! بدأ الكادحون يتفاخرون على بعضهم بطول ذيولهم، وبدأوا لاحقًا يتراقصون بها، ما كان بالأمس عيبًا أصبح مفخرة بينهم! ظلمٌ يتدرج من أعلى لأسفل، إلا أن الحقيقة التي استخلصها عدنان، أن ما كان نظامٌ متبعًا أصبح إعاقةً تعيق صاحبها عن مكاسرة الأيام في الاسترزاق، ورأى أن من ذابت أعمارهم في غربتهم ثقلت ذيولهم إلى حدٍ انحنت معها ظهورهم من سحبها وأحيانًا يضطر أحدهم لحمل ذيله بيديه اتقاء الأذى أو تجاوز الإعاقة.
أصبحت طرقات المدينة مكتظة بالذيول، وكثرت الحوادث واستغنى أرباب الأعمال عن الأقدمين منهم لقلة ما ينجزون، وعمّ الإحباط الجميع، إذ تكفلت السنون بنشر البطالة والعوز، وأخيرًا سعى عدنان في محاولة تُستبدل بها الذيول بمُثلةٌ دون مثلة، من خلال عقار ينبتُ زائدةً في مكان غير المؤخّرة، عدنان الذي أمضى قرابة العقد في المدينة، "فما أفنينا به أعمارنا حتمًا سيكون له وقع من الجميل في أوامرهم" قالها وهو يطلب من مجموعة مذيلين التوقيع معه على طلب الاسترحام لتغيير المثلة؛ اجتمع النَّاس يوم نقاش الاسترحام وأعينهم ألسنٌ يتحدثون بها فيما بينَهم، وصدر الفرمان بما هو آتٍ، يخضع كل من سولت له نفسه بالارتقاء لقطع ذيله وتركه ينزف حتى الموت، وإن نجّى فتلك فرصة يكفر بها خطأه ويعود ليعمل بذيل أطول، أو يغادر المدينة بعد تجريده من كل حقوقه فيعود صفرًا لقريته، أما عدنان فقد تم القبض عليه، وما أن حدث ذلك، حتى تغيرت صفحة الرزمانة إلى اللون الأصفر في سابقة غريبة حيرت القائمين في قاعة التفتيش ولَم يُعرف لذلك تفسير!


تقرر أن يُحاكم عدنان أمام الناس في الْيَوْمَ التالي دون تأخير ويعدم في ذات الوقت، لدرء الفتنة في مهدها، ولا بد أن يشهد إعدامه كل السكان ومعهم المذيلون وفِي مقدمتهم من وقعوا مَعَه العريضة؛ تزاحم الناس يوم المحاكمة، ودخل القاضي وتلى لائحةَ الاتهام ومفادها التأليب على نّظام الحياة، ثم سأل الحضور ومنهم المذيلين عن الحكم المستحق لأمثاله، فقالوا بصوت واحد: الموت! فصدر الحكم بالإعدام، وأعدِم من  فوره، وهنا سقطت ورقة رزمانة حمراء، وعلا صوت عبر الأثير: (سحقًا لقومٍ أراد لهم الكرامة؛ فأرادوا له الموت) سكتتْ الأصوات؛ فكسر القاضي السكونَ حين قال: مالي ومال عدنان!