الجمعة، 13 يوليو 2018

( سيرة عطرة )

سافرت في إجازتي الصيفية لإحدى الدول الخليجية، وخلال زيارتي لسوق من أسواقها الشعبية مررت على البقالة لشراء بعض الأغراض، وهناك كانت القصة؛ فأثناء وقوفي عند المحاسب كان رجلٌ يناقش البائع الهندي عن رداءة جودة الخضار وكيف أن الخس ذابلة أوراقه، فأخبره أن الخس وغيره من الخضار الورقية لأرملة من جالية عربية، وما يقوم به مجرد بيع للخضار الذي تحضره لدكانه وغيره من محلات مجاورة في صباح كل يوم من سوق الخضار المركزي منذ عدة أعوام، إلا أن الرجل استشاط غضبًا وأرغى وأزبد وطلب فورًا إحضار المرأة حتى يتأكد من قول البائع وأيضًا ليعلمها كيف تكون أمينة في اختيار الخضار وبيعها!
خرج العامل مسرعًا لمنزل المرأة، وما هي إلا دقائق وكان عند المنزل يطرق الباب بشدة، فتحت له الباب وسألته: ماذا بك؟
فشرح لها ما حدث وطلب منها القدوم للدكان، وبناتها يسمعن الحديث وهن لا يصدقن ما يحدث، فأخبرتها ابنتها الكبرى فاطمة ألا تذهب؛ فردت الأم بلسان المطمئنة: بنيتي! ( يأتي الخير في طيات الشر)، لا تخافي فنحن بين لطف الله ورحمته.
خرجت من بيتها صوب الدكان ثابتة محتسبة، وصلت لهناك والأعين تنتظر قدومها، فتنفس عامل الدكان الصعداء عندما رآها، وقال للرجل: هذه هي أم فاطمة.
ألقت السلام عليهم بحياء امرأة ذبحها الفقر ثم سألت: ما خطبك سيدي؟
أنت صاحبة الخضار؟ سألها الرجل هادئاً.
نعم، هل لديك اي ملاحظة على الخضار يا سيدي؟
لماذا أنت وليس رجل من عائلتك من يقوم بهذا العمل؟
قالت: أنا أرملة أعول أربعة من البنات كلهن يدرسن في المدارس، وليس لنا بقية أهل في هذه البلاد.
وكيف تحضرين الخضار؟
قالت: كنت من قبل أذهب بنفسي لسوق الخضار المركزي وأشتريها، ولاحقاً تعاملت مع بعض التجار الذين يرسلونها مع سائقين فجر كل يوم لمنزلي؛ فأتولى تنظيفها وترتيبها، ومن ثم توزيعها على البقالات.
وأعود في آخر الليل لأخذ مقابل ما باعوه بعد خصم نسبتهم من البيع المتفق عليها، وكذلك الخضار المتبقية لديهم. 
سألها الرجل: وماذا تفعلين بالخضار التي لا تباع؟
نظرت إليه مترددة في الإجابة، ثم أجابت: أتقاسمها مع جيراني عشاء ليلتنا.
سيدي إن الليل عندي، هو انقضاء ألم يوم وولادة معاناة يوم جديد.
هنا تلطف في صوته أكثر وسألها: هل لك مصدر رزقٍ آخر؟ 
فأجابت شاكرة مبتسمة بالنفي.
وماذا عن إيجار المنزل؟
ذلك موضوع آخر فمنذ وفاة زوجي توقف صاحب البيت من أخذ الايجار، بل ويعطف على بناتي بما تجود به نفسه بشكل دوري.
سيدتي، أعتذر لطلبي قدومك بهذه الطريقة، إن إلحاحي عليه باحضارك إلى هنا ما هو إلا فضول لأتأكد من صدق ما أخبرني به، ولأتعرف على تلك المرأة العفيفة التي حكى لي عنها في كلمات لخصت لي سيرة عطرة لامرأة وددت لقاءها.
سيدتي لن يكون صاحب المنزل أكرم مني، ثم تنحى بها جانبًا ونادى ابنه الذي كان من بين الجموع يسمع ويرى ما يقوم به أبوه العظيم، وهناك أعطاها ظرفاً وقال لها هذا مبلغ من المال سيكفيك بقية شهرك، وسيأتي ابني معك إلى المنزل ليعرف عنوانه ثم ستقوم زوجتي بزيارتك لاحقاً لمعرفة احتياجات حياتك بما يكفيك وبَنَاتِك ما دمت حياً،  وفي حال وفاتي سيكمل ابني وزوجتي ما بدأته معك.
أستودعك الله وسيذهب معك ابني الآن كما اتفقنا؛ ثم غادر المكان وعواطفنا ممتلئة بالدموع وأعيننا قد غشاها ما غشاها من العبرة.

د. خالد احمد عبدالجبار