السبت، 28 يناير 2017

( بوابة العبور )
يتجاوز بخوفٍ سواترَ ترابية يربض وراءها أصحاب القبعات العسكرية و نقاط تفتيش منتشرة بعشوائية غير مفهومة، و تتوزع نظراته بين خطوات طفل يبيع كل ما هو مشبوه وآخر يقتات على فضلات أيد أنهكتها الحرب، و رجل هناك يتسول واخر يعرض ما لا يمكن شراءه، وامرأة تسير بأبنائها تبحث عن بقايا بين الحطام و اخرى حطمتها الأوجاع، لا تعرف ماذا تريد فضلاً عما يعرف الناس .
أُقفلت المنافذ الحدودية بالمتاريس فبحث الناس عن اخرى اكثر أماناً من القذائف و أشد عرضة لقطاع الطرق
كان واحداً من عشرين مسافراً، يتشاركون ذات المشاعر من حزن على وطن يتلاشى و خوف من مستقبل يتهاوى بين أضلاع المنتفعين من دماء الشهداء، سلكوا الطريق الترابي الأصعب الذي يعلو حجارته نقوش من لغة مندثرة رسمت ممراتٍ لعابري الزمن الغابر الى مجهول الزمن الحالي.
وصلوا الحدود، وهناك وقفوا طوابير على مد البصر مع من سبقوهم و من أتوا بعدهم، حان دوره، نظر المفتش لوثائقه، فقال له انت طبيب و لا يمكن ان تغادر الوطن! فامثالك نحتاجه في المعسكرات لعلاج جرحانا و قبر موتانا.
 وفي لحظات كان هناك جنديان يقوداه الى حيث لا يدري، طلب منهما دخول دورة المياه، وهناك وجد ملاذاً يطلق فيه دموعه كمداً، فتاشيرة عبوره الى وجهة أحلامه لم يبقى على صلاحيتها سوى يومان.
خرج لقيود تسوقه الى ساحات الموت، وجد مرافقيه حانقين من تأخره، إلا أن احدهما كان قد تم تغييره وكان برتبة ملازم، وأثناء سيرهما صرف الضابط الجندي الاخر لمهمة اخرى، وأكملا سيرهما، ثم بدا يحادثه قائلاً، سمعت ما دار بينك وبين المفتش و علمت انك طبيب وتنوي مغادرة البلاد، هل فراراً من الحرب؟ 
أبداً، وانما لإكمال دراسة التخصص، و أعطاه وثائقه ليتفحصها، نظر اليها ثم قال اتبعني، اخذ يشق الجموع ممسكاً بيده، شعر بدف انسانيته يحتوي أحلامه بعد ان قاربت الضياع.
و دخل الى ذات الغرفة التي يقبع بها ذات المفتش الذي نهره وأمر بأخذه، وقام بإعطائه تأشيرة الخروج، ثم أمر بسيارة لتجتاز به الحدود، رد صاحبنا لقد وهبتني الحياة .
لا يهم ان تبقى على قيد الحياة ، فالدنيا ظلٌ زائل، ما يهم هو ان يبقى المرء في التاريخ ما قدم للإنسانية من بذل و عطاء .
عبرَ الحدود ووصل لمحطته الأخيرة، وفي اليوم الأول من التحاقه بالدراسة، وجب عليه أن يقدم نفسه لزملائه بناء على طلب البروفيسور المسؤول، كانت لكنته في بلد المهجر ذات دلالة واضحة على أصوله الأجنبيةفقام احد الطلاب بالاستهزاء من لكنته، فلم يرد، فما كان من البروفسورإلا أن قال بصوت عال؛ من المتوقع ان يكون لزميلكم لكنة في اللغات الخمس التي يجيدها، والمحزن أن نضحك ونحن لا نجيد إلا لغة واحدة وبالكاد، فلم يجرأ أحدٌ أن يستهزأ به بعد ذلك، فكان هذا سبباً في نبوغه و اثبات محامد الانسانية.إن بوابة العبور للتاريخ التي تحدث عنها ذلك الضابط، لم يكن لها حارساً او عابراً كما كان لها هو بعينه في الشرق و هذا البروفيسور في الغرب.

الثلاثاء، 10 يناير 2017

(كانت هنا)
جمع أوراقه و أخذ حقيبته ملتحفاً بالهموم، مطأطئ الرأس ، ليغادر مكتبة الكلية بعد أن قرأ كلماتها الجافة التي أرسلتها عبر الخلويّ، كانت جفاف تلك الكلمات تكفيه ألماً لبقيةِ يومه. وما إن همّ بمغادرة المكتبة, حتى رآها أمام أرفف كتبٍ على مقربةٍ منه، فعاد مسرعاً دون أن تشعر به، أو هكذا خُيل له، عاد لمكان قراءته المعتاد و أخذ يرتب جنباته و ينفض الغبار ماسحاً له بكم قميصه، فربما تأتي و يكون هو المقصود بحضورها .
على الرغم من كونها ابنة خاله و زميلته في نفس الكلية إلا أن خلافات حدثت في الماضي بين أسرتيهما حالت بين وصالهما، فأمها ترفض أن يكون بينهما تواصل يتعدى الزمالة، و أخبرتها أنها لو اكتشفت غير ذلك فإنها ستقوم بنقلها إلى كلية أخرى! فكانت فحوى رسالتها أن ابتعد عني ، ممزوجة بقسوة ِتعبيرٍ ، لتخبره بأن هذا ما يجب أن يكون، فمستقبلها أهم !

عاد أدراجه، و جلس على كرسيه ممسكاً كتاباً لتراه يقرأ، ولو رأته على هذه الحالة فستضحك لأن الكتاب كان مقلوباً بين يديه. انتبه و بسرعة خاطفة فتح شنطته و أخرج حاسوبه، فهذا الوضع المثالي الذي يداري ارتباكه، وبقى أن يرتب هندامه، فشد قميصه وعدل بنطاله و خلع نظارته فهي تحب أن تراه بلا نظارة ! 
لا لا, ضع النظارة على عينيك لتبدو طبيعياً، وبينما هو على هذه الحال, سمع تغريدتها وهي تلقي السلام ، لقد أشرقت شمسه ثانية فهي هنا.
كيف حالك ؟ فأجاب بتمتمة لا يذكر ماذا قال فيها، إلا أنها بادرت بسؤاله عن أحد المراجع على عجل، لتوهمه أن قدومها كان لذلك، كان مسروراً بالبقية الباقية من وصالها، حتى لو كانت على عجل! كان مرتبكاً بقلب يخفق و عين خجولة تسترق النظرات، جلست بعد إلحاحٍ منه فقد استدرجها بعفويته، أخذ يقص عليها حكايات من طفولته و هي تسمع مبتسمة و كانت كلما ابتسمت شعت أساريره من عينيه، و غاص في طفولته، لقد كان يشعر دائماً أنها رفيقة طفولة لم يعيشاها سوياً، وكانت دائماً تقول له مازلت طفلاً لم يكبر ويجيبها بأن شقاوتك أصغر من طفولتي .
مضت دقائق كانت من أسعد اللحظات التي عاشها. فجأة قاطعته لضرورة ذهابها، هز رأسه متفهماً وداخله يصرخ  لا تذهبي، كان لا ينظر لعينيها، فهو يعلم أن لسانه معقود بعينيه .
وقف يودعها وهو ينظر لظلها و يسمع خطاها في داخله، وما إن غادرت حتى غرق المكان بظلمة ليلٍ غاب قمره، و خَر على كرسيه منهكاً متأملاً مكان جلوسها، مسترجعاً ما دار بينهما من حديث، دمعت عيناه و هو يقول كانت هنا منذ قليل.
د. خالد عبدالجبار