الاثنين، 22 مارس 2021

الكهف والمغارة

 عاد الزوج إلى بيته مهموماً عابسًا لأمور ألمت به، مرتجياً راحة يكتنزها من لقاء زوجته "إنْ قابلته بوجه طلق وابتسامة مشرقة"، والزوجة بالمقابل كانت تنتظره مثخنة بالملل ومرهقة من رعاية الأبناء ترصدُ قدومَه مبتسماً مرحاً، فلما رأته مكفهر الوجه معرضاً تقهقرتْ وخابَ ظنُها وأعرضت بإعراضه؛ ونأى كلاهما بجانبه، منعزلاً ينظرُ من طرفٍ خفي؛ متوهماً استحقاقه لاعتذار ومبادرة الآخر! فلما عز عليهما ذلك وزاد الجفاء واتسع الخرقُ على الراقعِ، أصبحتْ كل إيماءة أو كلمة من أحدهما تفرطُ خرزةً من سبحة الوصل، حتى غدا الخيط فارغاً تطيره الرياح حيثما شاءت بعيداً عن سبل الإصلاح، ولم يبق لهما سوى الطلاق شاهداً على سوء تقديرهما.

قد يُنظر لتداعياتِ الموقفِ المذكورِ بعينِ ترى التضخيمَ جاثياً عليه، جانياً على سردِه، غيرَ أن النارَ توقدُ من مستصغرِ الشرر، فكم من بيوتٍ تأججتْ نيرانُ حرقها من كلمةٍ قِيلتْ في غيرِ مكانها وزمانها المناسبين، أو أن طرفا الحديثِ لم يكونا في ذروة التفهم والتقدير، تلك الذروة التي تتفق ومساق الحفاظ على ديمومةِ الأسرة؛ ويرى روادُ العلاجِ النفسي في العلاقاتِ الزوجية "أن للحوار بين الزوجين خصوصية شكلتها أبعادٌ مختلفة منها تلك المحفورة في ذاكرةِ الإنسانِ عن أسلافه الصيادين من الحقبةِ البدائية"، فإنسان ذلك الماضي البعيد كان يعودُ من رحلةِ الصيدِ منهكاً، - "قد عطبتْ أسلحتهُ أو فُقدتْ، نفذتْ سهامُهُ أو تآكلتْ نصالُهُ، شارفَ على الموتِ أو رأى هلاكَ أحد أفراد المجموعة أو أوشك من ذلك، فريسة أضاعها أو كاد"-، صورٌ تعانقُ أفكارَه المندفعةَ كخيولٍ جامحةٍ تركض بلا توقف، ولا تربض سوى أمام وهج النار التي أوقدها في كهفه، فيقعد أمامها ليدخل عالمه مستغرقاً ومندمجاً ليستريح من عناء رحلته، ويشبع حاجة ضرورية للانفراد بذاته، يراقبُ ألسنةَ النارِ ودخانَها المتراقص حولها، محللاً للأحداث التي واجهها، محاولاً حل ما استحكمت عقدتُه، فيستمر على تلك الحالة الكهفية إلى أن تصفو سماءه ويصبح جوه سجواً؛ فيغادره ويلتقي بزوجته وأحبته بعدها، متهيئاً للتواصل معهم؛ وفي عصرنا هذا يحدث ذاتُ الأمرِ للرجل، إذ يعودُ لمنزلهِ وقد أعياه يومُه، لائذاً بكهفه "مجازاً" ليسترخي بعد خوضه معارك الساعات الأخيرة، أمام شاشة التلفاز -مثلاً-، مغلقاً كل حواسه عن محيطه، يحرك قنواتِه صعوداً ونزولاً، كأنها نارٌ يرصدُ ألسنتها، يراجعُ تعاملاتِه مع الآخرين، وما أفضت إليه مهاراتُه التي استخدمها، - وهي ما توازي حروبَ أسلافِه وأسلحتهِم-، مفرغاً  بذلك طاقته السلبية.

ويأتي هنا دور الزوجة الناضجة من وعتْ ظلمةَ ذلك الكهفِ وضرورةَ سكنى زوجِها فيه، وما يمكنها فعله حتى يخرج منه وَضِيءٌ الوجه مشرقاً، لتستقبله طَلقة المُحيَّا، وتقابل صمتَه بصمتٍ وتقبّل، مدركة حدود الاقتراب منه، وفي مرمى بصره، فإن أراد خروجاً من كهفه مد يده ليجد يدها فيمسك بها، إيذاناً بالغمر العاطفي منها ولها، فيكون أكثر إيجابيةً وتفاعلاً معها؛ والمرأة الحصيفة تعرف أن اقتحام خلوته قد يُخرج لها تنيناً من الكهف ينفث عليها ناره، وإنْ كررتْ ذلك سيبحث عن كهف آخر خارج منزله !، أو ربما يقع أبغض الحلال، وتعلم أيضًا أن وحدته المؤقتة لا تعني ضجراً منها، أو عزوفاً عنها، ولا تعني أبداً توقفه عن حبها، ولا تعني إطلاقاً الاستغناء عنها.

إن كان ما سبق يُعرف بكهفِ الرجل، فإنّ هناك مغارةُ المرأة، تجعلُ لها حقاً بالمقابل على الرجلِ يراعي به خصوصيتها المكفولة بطبيعةِ جسدِها واختلافِ أحتياجها "اللا موعي" الموروث، فجسدُ المرأةِ يتعرضُ لمداهماتِ الدورةِ الشهريةِ بآلامِها وتغيرِ مزاجِها المرتبط بمستوى الهرمونات المترأجحة، وما قد يترتب عليه من معاناةٍ قد يصل لاضطرابِ نفسي يدعى "اضطراب سوء المزاج ما قبل الطمث" لدى بعضهن، ثم هناك الحمل والولادة والرضاعة وما إلى ذلك من ضغوط، ليس آخرها-بالطبع- تربية الابناء والاهتمام بالمنزل، ناهيك عن وضع المرأة العاملة، وهناك ما يقال همساً في أذني كل فاضل ليأخذ بعين الرجولة مراعاة فراقها وطنها وذويها بعداً مؤقتًا أو فقد أبدياً في بعض الأحوال؛ لتأتي مع ذلك كله طبيعتها المختلفة عن الرجل -إلى حد ما- بتفضيلها التنفيس بالحديث والحوار التي يطلب إنصاتاً من المستمع محفوفاً بالتفهم والمواجدة، وكأنها في داخل مغارة عميقة تسمع صدى صوتها يأتيها منبوراً جلياً، فهي تبحث غالباً عمن يسمع، لا من يتبرع بالحلول.

 إنّ الإفراطَ في الجدِ لفهمِ احتياجِ الزوجين ليس بإسراف، والعكوفَ على جودةِ التواصل بينهما لا يعد مضيعة للوقت، والإتيان بتلك المهارات وإجادتها من الضروريات؛ كونها - بلا مرية ولا شك- ستُمكنهما من احتواء بعضهما في الأحوال المختلفة بما يحفظ كيانَ الأسرة ويُبقي الودَ بينهما.

د. خالد أحمد عبدالجبار 

إستشاري الطب النفسي واختصاصي العلاج المعرفي السلوكي