الجمعة، 19 أكتوبر 2018

( الانسانية المفقودة)

لم يجدوا للنومِ سبيلاً طوال تلك الليالي التي سبقت مغادرتهم لموطنهم الذي ما عرفوا بديلاً له، موطنٌ غابتْ كل أماني حياتِهم إلا البقاء فيه، لكنه في عرف الضمير المغيب وطنٌ له أهلٌ وهم غرباء.
خرجوا حشوداً وما فتروا يجمعون من تراب الأرض قبلاتٍ على جباههم من كثرة السجود دعاءً يسترقق أحجاراً في صدور من قالوا انهم رعاة الأرض، غادرَوا بعدما تقطعتْ بهم عرى آمالهم، ومن بينهم طفلٌ سحبته أمه وهو ساجدٌ ينوح بدعائه (اللهم ألن حجارةً سكنتْ صدورهم)، فألان الله بدعوته الحِجَارَة!
مضوا بآهات ملأت الشوارع العارية، آهاتٌ من افئدة هيجتْ فيها الاحزانُ عواطفاً طاب لها التأوه ولذّ لولئك الإستماع.
وفي صباح مكتظ بحقائب الألم والدموع، استوقف الجموع صوتٌ مجلجلٌ، وأحاطت بهم فرقُ التفتيش، وصاح منادٍ اسكتوا جمعياً، من الذي أشعل الجدران في البلدة بكتابات الطين؟
لم يفهم أحدٌ ماذا يَقُول؟ أي كتابات، تساءل احدهم؟
فإذا بسوطٍ يجيبُه منكراً لإنكاره، فخرّ على ركبتيه متوجعاً. أيها الجنود ضعوهم في زنزانات جماعية إلى أن نعرفَ الجناة. أما ما كان يقصده المنادي، فهو ظهور كتابات انتدبت الطينَ حبراً لتظهر على جدران البلدة(اتركوا أبناءي، ليأكلوا من خشاشي).
اَي هرطقة تلك؟ من أنت ومن أبناءك؟ 
تزايدَ الغموض وزادتْ النقوشُ ثباتاً لا يمكن محوه، ويوماً بعد يوم بدأتْ تظهر في كل مكان وبعباراتٍ اكثر قساوة ( قاحلةٌ بعدهم، لا زرع ولا ضرع )، (مساكنُهم خاوية وشوارعها عارية ).
ثم بدأت تبرز نتؤات على سطحِ الأرض، كل منها يتِّجه نحو مفترق من طرق البلدة، بعضها منفردٌ وآخرى جماعات ؛ فطغى لغزُ النتؤاتِ على لغزِ الطين والكتابات. 
لم تعدْ الأرضُ صالحةٌ للمشي أو الحرث والبيوت الخاوية سُدت بالجدران وأكوام الطين، وهناك وفي الزنزانات التي اكتظت بالنزلاء بدأ الجميعُ يلحظُ ان خيطاً من نُورٍ دقيقٍ لا يكاد يُبين، يتدلى من كعب القدمِ اليمنى لكلِ واحدٍ منهم ويمضي لما بعد الأفق مخترقاً الجدران، ولا يظهر نوره خاصةً إلا من تلك الأقدام الَتِي تقف في السحر تناجي ربها!
تم الإفراج بعدما تأكدت براءتهم، بل أصبحوا مثلهم في حيرة مما يحدث! فعاودوا المسير، كلٌ باتجاه وطنٍ لا يعرف عنه إلا من حكايات الآباء؛ وكانت الخيوط تزداد قوة فتثاقل عليهم مشيهم، والنتوات تزداد بروزًاً لتصبح كالتلال.
لقد اجذبت الأرضُ وأقفلتْ السماءُ وقبضَ الرعبُ على قلوب من تبقى من سُكانها، أما الليلُ فلم يبقى فيه سوى أصواتُ الريحِ التي تتبعها زمجرةٌ تدك الجدران!
تنبه القومُ بعد وقتٍ أن الطبيعة الجامدة تحركتْ، وحجارةُ الأرضِ لانتْ وآلت أن تنصرَ من ولدوا في أكنافها وتربوا في أوديتها، نعم ثارتْ الأرض بتلك الحياة المختبئة في حجارتها ولزوجة طينتها فانتدبتها لتحذر من شؤمِ ما اقترفوه بأبنائها، وكأنها تقول سأُكفنكم بالحرمان قبل أن تميتوهم بالشتات، وكذلك فعلت أخواتها في الطّبيعة.
هنا تحركتْ الحكمةُ مجبورة في نفوس الظالمين، لتقول أعيدوهم الى مساكنهم، لنرى أحقٌ هو؟
طارت الأصواتُ لتخبر الناس ان عودوا إلينا، فايقظ الخبرُ كلَ صوتٍ منازعٍ أتلفه الظلمُ ليقول الحمد لله، ومع بدء عودتهم خف التثاقلُ الذي سببته الخيوطَ المرتبطة بنتؤاتِ الأرض والتي بدأت بالتقلص كلما اقترب صاحبها لحضن أرضَه.

وبدأت الكتابات بالزوال من على الجدران وتراكمتْ السحب تغطيهم والرياح تهب من خلفهم بحنو يقول هلموا إلى دياركم، وتساقط الهتان فرحاً بعودتهم؛ إنتهت الفاجعةُ وعاد كل شيء كما كان إلا حائط البلدة الكبير الذي يتوسطها، إذ نُقش عليه بالطين( وإن عدتم عدنا)