الخميس، 3 مايو 2018


امرأة حكيمة .... ورجل ناجح

عاد لبيته بعد يوم صيفي قائظ آخر، بتوتر وأسى يشوبان وجهه، عاد بخف واحد من خفي حنين، كان لعب أطفاله يملأ البيت، فرفع عقيرته فوق صخب الضوضاء التي يحدثونها ملوحًا بيد الشؤم فوق غيمة طفولتهم البرئية وأمرهم بالذهاب لغرفهم.

لقد شتت الفشل بينه وبين ما يطمح، كان ينضحُ لسانُه بين الفينةوالفينة بجملته التي اعتاد غمسها في مسامعها مؤخرًا؛ ليتك تبلغين في داخلي ما أقاسي من حيرة، لتري ما أشكر من حظي وما أنكر، وليت لي من يستطيع أن يكشف لي قابل الأيام؛ لأرى أتعيسة هي كأيامي هذه؟! أم أن فرجًا سيحل مكان حزني المتلبس بثوب الحداد سيغمر حياتي بالأمل؟!
أنا.. أنا الذي كنت ولكني أصبحت بغير ما كنت، لقد خارت أحلامي وتبددت باليأس آمالي.
رسمتْ على شفتيها إبتسامةً هادئة وخطتْ إليه خطوةً وتمامها، وربتت على صدره بأناملها الوقورة تلك المرسلة من رزانة نفسها، تسبقها صدى كلماتها الرقيقة.. لا عليك عزيزي ستطيبُ نفسُك بما يسرك يومًا!
وتركته وقد سكنت روحه، إلا أنها عزمت على فعلٍ يخالف نهج ما تعوده منها عبر رحلة حياتهما الممتدة لعشر سنين!
مضى الآن قرابة العشرة أشهر منذ أن أعلن إفلاسه، ومنذ ذلك اليوم وحياته تمضي رتيبة بين السخط واللوم، وبعد مرور التسعة أشهر بدأ في الخروج باحثاً عن وظيفةٍ توافق شروطه، فالأعمال وفق خبراته كثيرة! إلا أن واقعه الجديد سيجعل منه موظفاً بعد أن كان يدير أعماله الخاصة جعلته نافرًا من الالتحاق بأي عمل.
عاد اليوم ككل يوم، بتبريرات لم يلحظ أنه يجترها يومياً دون أن يدرك، فتارة ضعف المرتب وأخرى بعد المسافة، وفينة عيب في المدير، وغيرها من جمل شاحبة بلا منطق.
تناول لقيماتٍ من الغذاء أداء لواجب الشكر على ما تقدمه زوجته، ثم ذهب ليقيل قبل خروجه عصرًا لاستئناف بحثه عن وظيفة مناسبة!
وخرج في وقته وودعته، وبعد خروجه جمعت أبناءها وطلبت منهم أن ينجزوا فروضهم المدرسية ويخلدوا إلى نومهم مبكرين. وقامت من فورها بترتيب منزلها وإخراج المفروشات الخاصة بأيام المناسبات، ثم قامت بإعداد أطايب الأكل والمشروبات والشموع والإضاءات الخاصة بطاولة الطعام التي أرادتها رومانسية في ليلتها هذه. وأخيرًا أعدت نفسها بما يلزم من تهيئتها كعروس في ليلة عرسها.
وفي المساء عاد زوجها منهكاً، وما أن فتحت الباب، ورأى ما رَآه من إضاءات خافتة وتراقص ظلال الشموع على جدران البيت وروائح العطور وبهاء طلعتها وأناقة مظهرها، حتى اعتراه صمتٌ أطبق على جسده فلم يستطع الحراك، فأمسكت بيده وتوجهت به ليأخذ حماماً دافئاً وأعطته ملابس جديدة.
بدأ ليلته صامتاً باسماً وقوراً في حضرة صاحبة السمو، تلك المرأة التي تزوجها صغيرة ولم يعتد منها مفاجآت كهذه خاصة في مثل ظروفه الحالية.
تناولا الطعام وتجاذبا الحديث عن ذكريات الخطوبة وشهر العسل وغيرها.
وبعد أن أتما العشاء أحضرت الحلويات وشراب التفاح الذي يحبه، ثم طلبت منه أن ينصت لها فيما ستقول وألا يقاطعها حتى تكمل حديثها!
وتلك مفاجاة أخرى، فلم يحدث منها مثل ذلك من قبل.
عزيزي أراد الله بك خيراً لأن أقداره كلها خير؛ مضى الآن عشرة أشهر من يوم أعلنت إفلاسك، وخلال تلك الفترة كنتُ أحاولُ جاهدة أن أدير شؤون حياتنا بما ادخرته من أموال خلال فترة زواجنا، وكنت كلما سألتني أقول لك لقد بعت جزءاً من ذهبي إلا أن الحقيقة أن ما لدي من ذهب لم يكفينا سوى أربعة أشهر وما صرفته بعد ذلك كان ما ادخرته من مصاريف البيت والذي كنت اطلب زيادته من فترة لأخرى تحسباً لأي طارئ، فكان ما كان، فاستطعت من خلالها الاستمرار بأولادنا في ذات المدارس والإبقاء على ذات المستوى المعيشي بدون أن أزعجك بشي على أمل أن تتجاوز محنتك وتنهض من صدمتك، إلا أن الوقت طال وما أن تذهب للبحث عن عمل حتى تعود صفر اليدين محبطاً.
عزيزي، لم يبق لدينا إلا ما يكفي لشهر واحد فقط؛ يكفيك حزناً على ما فات ولتعد كما عهدتك صلباً راضياً؛ ما أريده منك عزيزي هو أن تذهب غداً ولا تعود لبيتك إلا وبيدك عقد عمل مع آخر جهة قابلتها فهي تناسب إمكانياتك ومتطلبات حياتنا، ويذهب عنا كابوس الخوف من قابل الأيام.
كان كل ما فعله أن أنصت لها مذهولاً من منطقها معجباً بما فعلتُ وتفعل، وما كان جوابه إلا أن هز رأسه مبتسماً موافقاً بدون أن ينبس ببنت شفة. ثم وقفت ومدت يدها إليه وقالت هيا بنا الآن فأنا اليوم عروسك وفاتنة ليلتك!
استيقظ فجراً وتناولا إفطارهما ثم ودعته متفائلة، وما هي إلا ساعة من نهار تلقت منه مكالمة يبشرها ببدء عمله الجديد.

مضى الآن عامان على هذه الحادثة، عادت وابتسمت الحياة لهما من جديد ببصيرة امرأة حكيمة ورجل أنصت  فعمل وأجاد.