السبت، 3 سبتمبر 2016

(لعنة المعطف) 
تحكي قصةُ المعطفِ التي كتبَها جوجول، عن رجلٍ قليلُ الحيلة ، ضعيفُ الشخصية، خاملُ الذكر،  يدعى أكاكي أكاكيفتش، يعيش وحيداً في بطرسبورغ إلا من صحبةِ امرأةٍ مسنةٍ ترعاه ، يشاطرُها منزلَها، مقابلَ مبلغٍ زهيدٍ يدفعُه شهرياً، يعملُ في وظيفةٍ لا يجيدُ فيها سوى النّسخَ و النسخَ فقط ، حتى حين يعود لمنزله فانه يقوم بنسخِ ما احضره معه من مكتبه، فان لم يجد، قام بعملِ نسخة لنفسِه، لا لشئ و إنما لشغفه بما لا يحسّن غيره و هو النسخ ، ثم يرتاد مضجعه متخيلاً عدد ما سيقوم بنسخه في يومه التالي ، ولو أُوكلتْ له وظيفةٌ أخرى غير النسخ لما استطاع القيام بها.
 كان يتعرضُ لسخريةٍ من زملائِه في العمل دائماً، فهو في هيئته الرثة ، و قصر قامته و ذمامة ملامحه، منبوذاً يعيش بمعزل عن العامة، و لا يختلط بزملائه إلا بما تسمح به العادات المكتبية من تواصل، و تكون  في أغلبها تدنيس لهدوئه و سلميته. فهو لا يملك في دنياه من البشرِ أي صديق و لا من الأشياء سوى معطفاً واحداً مهترى ، كأن الزمان قد أسدلَ عليه بؤسه، و مع تعاقب السنين ، تمزق قماشُه و اهترءتْ بطانته، فكان يقومُ بترقيعه كلما تمزق من قطعة اخرى من نفس المعطف ، و لكن من مكان أقل وضوحاً لمن يراه ، و في يوم ٍ كان لا بد له أن يأتي ، أصبح المعطف غير قابل للترقيع ، فقد تمزق بطريقة لا يمكن اصلاحه ، و إقناع الخياط لترقيعه كمحاولة اخيرة أصبحت بلا جدوى، فلجأ لشراءِ معطفٍ جديدٍ ثمينٍ بالنسبة لفقير مثله. 
تغيرت حياةُ أكاكي أكاكيفتش بعد شراءهِ لذلك المعطف، فأصبح اكثرَ حيوية و ثقة في مظهره و حضوره، فأراد زملاءه الإحتفالَ به و بمعطفه الجديد، فدعوه إلى حفلةٍ استمرتْ الى وقتٍ متأخر من الليل، وعندما عاد إلى بيته حدث ما لم يكن بالحسبان، فلقد سُرق معطفه تحت التهديد، فتغير كل شيء ثانية ، فأصبح ذلك المعطف أيقونة عذابٍ ساقه إلى الموتِ كمداً و حزناً ، فعندما حاول طلبَ العون من الشرطة للبحث عن اللصوص و استرجاع المعطف، نصحوه بان يتحدث لشخص ذو وجاهة ، يستطيع بإتصال بسيط ان يحلَ له معضلته، و أن يجدَ له معطفَه ، فذهبَ من فوره إلى  مكتب ذلك الرجل الوجيه  ، و الذي كان بمعيّة أحد الأعيان ، فما أن عرضَ عليه مصيبته و انه لجأ اليه ليساعده في استرداد معطفه ، حتى بدأ في إهانته و ازدرائه امام ذلك الرجل، فوقف أكاكي أكاكيفتش خائفاً صامتاً لا يرد ،  في مشهدٍ تسلّط فيه الغرورُ و الكبرُ و انعدمت فيه الانسانيةُ ، فدمرَ حياة أكاكي أكاكيفتش و حلمه في عودة المعطف ، فعاد لبيته مقهوراً و أصيب بالحمى من ليلته ، ثم لم يلبث سوى يومان و مات .
وخلت بطرسبورغ من أكاكي أكاكيفتش، و كأنما لم يكن موجوداً فيها أبداً . اختفى وغاب ذلك المخلوقُ الذي لم يكن له من يحميه والذي لم يكن عزيزاً على أحد ولم يملك من دنياه إلا ذلك المعطف .
لكنها لم تكن النهاية ، و إنما البداية و هي العبرة ، فروحُ اكاكي فتش كانت لعنةٌ على أَهْلِ  مدينته ، و على ذلك الوجيه الذي كان سبباً في موته ، فقد عادت روحُه مرتدية ثوب الموت و شحوب القبر، تحوم في بطرسبورغ ، تريدُ الإنتقام ، و لكن بطريقتها و بما أوجعها ، فَجَزَاء الجميع من جنسِ سبب موته ، تعريهم من معاطفِهم عبر طقوسٍ مرعبة مهينة، عاشها أكاكي أكاكيفتش  عندما سُرق معطفه و حين أهانه ذلك المتعجرف ، فجعلت روحه تحوم في بطرسبورغ ليلاً ، تبحث عن المعاطف و تسلبها، و كان آخرُ ما سلبته، هو معطف ذلك الرجل المتعجرف، ثم اختفت إلى الأبد ~ 
كم من أناس سخروا من أحلام غيرهم ، و في أطيب احوالهم منعوهم حقهم في حيازتها ، و في أشبعها هتك إنسانيتهم و التمادي في حد الحيوانية بإذلالهم ، ليبقى كلٌ في رتبته ، فَلَو أن الحوذي أرادَ يوماً أن يستحثَ نفسَه بدلَ أن يستحثَ حماره على المسير، لانتفض الحمارُ قبل أن يعترضَ سادةُ الحوذي، تلك شريعة إبقاء الرتب و الطبقات بين أجناس البشر .
إنّ خيبةَ رجاء من يرجوك في ذاتها مؤلمة، حتى لو كانت بصمت منك ، ناهيك عمن يتبع الخيبة بأذى، فتملأ رُوحه من الوهن كما يملأ الإناء من الماء فيغرق فيه و يموت، كما مات أكاكي أكاكيفتش.
ان أرواح الضعفاء تظلُ لعنةً علي الجور و قساة القُلُوب الى الأَبَد!! 

د. خالد أحمد عبدالجبار 

هناك 6 تعليقات:

  1. مبدع انت دائما يابو احمد بالتوفيق والى الامام

    ردحذف
  2. مبدع انت دائما يابو احمد بالتوفيق والى الامام

    ردحذف
  3. جميلة ومعبرة وهادفة ...كما عودتني بابداعاتك 🌸🌸🌸🌸🌸

    ردحذف
  4. جميلة ومعبرة وهادفة ...كما عودتني بابداعاتك 🌸🌸🌸🌸🌸

    ردحذف
  5. من اقسى انواع الظلم التقليل من شأن إنسان واحباطه الظلم النفسي أقوى وأعنف من الظلم الجسدي او المادي. رغم انه لم يكن يريد اي أشي في الحياة ! بسيط جدا ومنعزل وتعرض للاستهزاء !! لماذا نحن هكذا البشر !
    شكرًا القصة جميلة

    ردحذف
  6. من قساوة الظلم انه دائما يمارس على الضعيف الذي ليس له حيله فإذا ضاع حق الضعيف ولم يجد من يرده له فلن يكن هناك بد من حلول عقاب الله.
    لا تظلمن إذا ما كنت مقتدرا***فالظلم ترجع عقباه إلى الندم
    تنام عيناك والمظلوم منتبه***يدعو عليك وعين الله لم تنم

    ردحذف